كانَ مِن أولِ ما خطَبَ سيدُنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فى المدينةِالمنورةِ كلمةً مشهورةً تضمنَها حديثٌ شريفٌ رأَى السادةُ العلماءُ أنَّه أحدُ الأحاديثِ التى عليها مَدارُ الإسلامِ كلِّه، ألَا وهوَ حديثُ: «إنما الأعمالُ بالنياتِ، وإنما لكلِّ امرئٍ ما نوَى، فمَن كانتْ هجرتُه إلى اللهِ ورسولِه، فهجرتُه إلى اللهِ ورسولِه، ومَن كانت هجرتُه لدنيا يُصيبُها أو امرأة يَنكحُها، فهجرتُه إلى ما هاجرَ إليهِ». وكانَ سببُ هذه الخطبةِ أنه حينما هاجرَ المهاجرونَ إلى اللهِ تعالى ورسولِهِ الكريمِ صلى الله عليه وسلم، هجرةً خالصةً لا يبتغونَ بها شيئاً من حُطامِ الدنيا، بل إنهم تركُوا فى سبيلِ هذه الهجرةِ أوطانَهم، ودِيارَهم، وأموالَهُم، ومَن عادَاهُم مِن أهلِهمِ وأقاربِهِم، وسارُوا فى طريقٍ وعْرٍ مُوحشٍ أكثرَ مِن أربعِمائةِ كيلومتر، وذهبوا إلى بلدٍ لم يكنْ لهم به أهلٌ أو صديقٌ أو أليفٌ، بل لم يكونُوا يَعهدُونَ جَوه، حتى إنَّ بعضَهم أُصيبَ بحمَّى شديدةٍ جعلتْهُم يَهذُونَ، ولهذا كانتِ الهجرةُ الصادقةُ معياراً يميزُ الصادقين {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر: 8]، وآيةً تدلُّ على الإيمانِ الحقيقىِّ {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقاً لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال: 74]، بل جعلَها اللهَ تعالى أساساً للموالاةِ والمحبَّةِ {فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ} [النساء: 89]. وفى وسَطِ هذه الأنوارِ الإيمانيةِ المتمثلَةِ فى المهاجرِينَ فُرادَى وجماعاتٍ جاءَ رجلٌ لم تكن هجرتُه فى سبيلِ اللهِ تعالى، وإنما هاجرَ للزَّواجِ مِنِ امرأةٍ مِن المهاجراتِ تُدعَى «أُمَّ قَيْسٍ»، فكان يُلقّبُ بمهاجرِ أمِّ قيسٍ! موقفٌ عجيبٌ أنْ ينسَى الرجلُ حقَّ ربِّه عليه! نعَم.. الإسلامُ يقدرُ المشاعرَ المرهفةَ، بل إنَّ اللهَ تعالى يمُنَّ بها ويُنمِّيها بين الزوجيْنِ المؤمنينِ {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم: 21]، ولكنْ لا يصحُّ أنْ ينسى الإنسانُ ربَّه سبحانه، وحقَّه عليه، وتُسيطرُ عليه عاطفةٌ طائشةٌ قد تَتبدَّدُ مع مرورِ الأيام! فلمَّا بلَغَ سيدَنا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم الأمرُ قامَ على المنبرِ وقالَ هذه الكلماتِ دونَ أن يُحرجَ الرجلَ أو يَذكره، ولكنَّه عدَّلَ المسارَ له ولغيرهِ مِن بَعده. وهذهِ الكلماتُ النبويةُ الشريفةُ تُبيّنُ حقيقةَ الإخلاصِ، وهو أنْ يكونَ العملُ خالصاً للهِ تعالى، ورغمَ وضوحِ هذا المعنى فإنه يَلتبسُ على كثيرٍ من الناس، فكثيرون منهم يظنّونَ الإخلاصَ هو إتقانُ العمل! والإتقانُ أمرٌ عظيمٌ أمَرَ بهِ الإسلام، ولكنه شىءٌ غيرُ الإخلاصِ، فمُهاجر أمِّ قيسٍ ربَّما يكونُ فى رحلتِه إلى المدينةِ قد بلَغَ حداً بعيداً من الإتقانِ، لكنَّ عملَهُ غيرُ خالصٍ للهِ تعالى، وكم مِن كاذبٍ ومختلسٍ وشاهدِ زورٍ قد أتقنوا أداءَهُم فى باطلِهِم؛ لكنَّها فى النهايةِ أعمالٌ محرمةٌ يُعاقبونَ عليها فى الدنيا والآخرة. نعم.. الإخلاصُ يقتضِى مِن العبدِ أنْ يُتقنَ عملَهُ، لكنْ قبْلَ الإتقانِ لا بدَّ مِن تصحيحِ نيةِ أنْ يكونَ العملُ مقصوداً به وجهُ اللهِ تعالى، لا طَلباً للمنزلةِ عندَ الناس، أو ابتغاءً لشىءٍ مِن حُطامِ الدنيا!