يتحدثون فى البلدان النامية والجماعات المتعصبة أن قيمهم هى الخالدة والعالمية والأرقى، ويدعون العالم للاستعانة بها فى الحياة، ويهاجمون فى نفس الوقت قيم غيرهم لأنها لا تصلح فى غير بلدانها! نحن بثقافتنا وأخلاقنا وقيمنا وإنسانيتنا الأفضل والأعلى فاتبعونا. قال رئيس وزراء إحدى الدول: قيمنا هى قيم عامة، عالمية، أما القيم الأوروبية فهى قيم أوروبية! يتوهم البعض أن قيمه الحالية هى قيم خالصة ولم يتم تطعيمها وتهجينها وتخليص شوائب وخرافات منها، إن تلك الاستثمارات والعلوم والتكنولوجيا تجىء بداخلها قيمها، وباستعمالها يتغير نمط العلاقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والدينية. من يتصور أن تلك الابتكارات والاختراعات والآلات التى يستخدمها لم تضف لأخلاقياته الأصيلة أخلاقاً أخرى مغايرة مسلوب الفكر. إن الميكروفون الغربى الذى يتحدث منه المشايخ جعلهم يخفضون أصواتهم وهم يخاطبون الجموع بينما كان أسلافهم يزعقون لكى يُسمعوا، فليتواضعوا. القيم القديمة الواردة من الكتب الدينية أو الثقافية أو المتوارثة من الآباء والجماعة والطائفة لم تحقق التقدم المطلوب فى حياة الناس، بل كانت أحياناً كثيرة عائقاً أمام تقدمهم ونموهم وراحتهم وحريتهم وسعادتهم، لم يعد ممكناً إنكار دور قيم الحضارة الحديثة فى تكافؤ الفرص والعدالة والمساواة والديمقراطية فى حل مشاكلنا وعذاباتنا كما لم يعد ممكناً التردد فى العمل بها سريعاً. علينا إجابة سؤال: لماذا لم تحقق القيم القديمة لنا ولغيرنا التقدم من قبل الاحتكاك بالغرب وقبل الغزو العلمى والحضارى والثقافى بل والعسكرى؟ المؤكد أن قيمنا قد تغيرت قليلاً بفضل هذا الاحتكاك، وأعمالنا نمت نتيجة ذلك، ولكن يبدو أنه بقدر احتكاك دولة ما بالتقدم الغربى بقدر تقدمها الحضارى، رغم الاستغلال والنهب والاستلاب الغربى، أفغانستان مثلاً دولة لم تُحتل إلا نادراً وقريباً وهى مثال للتخلف. لننظر لدول المغرب العربى وشعوبها مقارنة بالمشرق العربى، لننظر مثلاً لدولة مثل تركيا مقارنة بدولة مثل مصر، لقد سارت الأولى مباشرة إلى الحضارة الأوروبية دون تلفيق منذ عهد أتاتورك، بينما لا تزال مصر تراوح مكانها، لننظر إلى مصر نفسها بعد الحملة الفرنسية وقبلها ولنستعيد معاً قيم العدالة والقانون بعد هذا الاستعمار وقبله وأثره على المواطن والطوائف والمجتمع. العمل بالقيم الحضارية الجديدة يحقق التقدم للأفراد وللمجتمع، القيم التى تخفف الصراع بين الأفراد والجماعات فى دولة ما، القيم التى تحقق السلام من أجل التفرغ للإخلاص فى العمل، القيم التى تعطى للجميع المساواة والحريات بنفس الحقوق والواجبات. كيف سنصنع التقدم بقيم مجتمع إقطاعى تستحوذ فيه جماعة أو طائفة من الناس على منافع أو مؤسسات تقطعها لنفسها ولذويها وتحرم منها بقية الشعب الذى لم يعد هو الشعب الماضى؟ هذه هى قيم التخلف الأصيلة والقديمة التى لم تعد صالحة للعمل بها بعد قيم الحضارة الغربية التى يتجاهلها السلطويون والإسلامويون والمنتفعون، كيف يمكن أن تحقق تقدماً بينما وزير عدل! ومجلس القضاء يمنعون ابن الزبال أن يكون قاضياً، ثم تحل هذا الوزير بآخر يتحدث أن طائفته سادة وبقية الشعب عبيد! معلناً أنه سيعمل على تعيين أبناء القضاة دون اعتبار لكفاءتهم لأن لديهم كطائفة قيماً ليست لدى أحد آخر وكأننا فى القرن السابع عشر؟ إنه نفس الحديث العبثى الذى بدأنا به الذى ينكر ويتجاهل ويتحدث بغرور وذاتية عن قيم ماتت وصارت رائحتها غير مقبولة ولن يسمح أحد باستمرار مصادرها. حال العدل ينبى ويكشف لذوى الأبصار. اليوم هناك قيم حضارية جديدة عادلة علينا أن نأخذ بها ونعمل مباشرة، وبعدما نحقق خطوة إنجاز يمكننا الادعاء انتفاخاً بقيمنا الخاصة وإنكار قيم الحضارة واعتبار أن المحسوبية واللا مساواة وتوريث المناصب هى زحف مقدس وقيم عالمية على العالم اتباعها!