خلال الأيام القليلة الماضية لقى 450 شاباً وشابة من الأفارقة، ينتمون إلى إريتريا وجنوب السودان ونيجيريا وتشاد ومصر وغانا، مصرعهم غرقاً قرابة السواحل الإيطالية فى حادثين منفصلين، لأن فرق الإنقاذ التابعة لدول جنوب أوروبا تقاعست عن إنقاذهم! فى إطار عملية تواطؤ غير إنسانى تنظمها سياسات أوروبية غير معلنة تتزعمها بريطانيا، ترى أن محاولات إنقاذ هؤلاء سوف تغرى المزيد من المهاجرين الأفارقة الذين يحلمون بفرصة عمل وحياة فى أى من الدول الأوروبية على القدوم فى موجات هجرة متتابعة بلغت ذروتها هذا العام، وربما يدفع غرق هؤلاء، الآلاف من أمثالهم الذين ينتظرون فى مدن السواحل الليبية فرصة ركوب البحر إلى أوروبا إلى إعادة التفكير فى حلمهم الصعب والعودة إلى ديارهم الأصلية، لكن ما يحدث على أرض الواقع بالفعل أن أحداً من هؤلاء لا يعود إلى دياره، حيث البطالة والفقر والجوع وندرة فرص العمل، وتسلط حكومات ديكتاتورية تصادر حريات الأفراد وتسىء معاملتهم، بل لعل الجميع يرون أن العودة إلى الديار أشد قسوة من الموت غرقاً على مشارف الساحل الأوروبى، لأن الأولى تكرس اليأس والاستسلام للأمر الواقع إلى الأبد، على حين ينطوى الاختيار الثانى رغم مرارته على فرصة خلاص ربما تتحقق ليبدأ المهاجر حياة جديدة فى إحدى المدن الأوروبية! وبرغم النقاش العلنى الذى يدور فى معظم الصحف الأوروبية حول غياب المعايير الأخلاقية والإنسانية فى سياسات أوروبا الجديدة تجاه المهاجرين القادمين من عمق أفريقيا، وضرورات تغييرها ليس فقط لأنها سياسات غير إنسانية تعادى الحياة، ولكن لأنها سياسات فاشلة لم تنجح فى وقف الهجرة إلى أوروبا أو التقليل من حدتها، تلتزم معظم الدول الأفريقية الصمت حيال هذه الظاهرة، لم نسمع احتجاجاً واحداً من الاتحاد الأفريقى أو أى من دوله على هذه السياسات الكريهة التى تنطوى فى مضمونها على نوع من العنصرية يسلب الحياة الإنسانية حقها فى الوجود إن تعلق الأمر بالأفارقة، ولم تنجح أى من الدول الأفريقية فى أن تضع هذه المشكلة رغم حدتها على مائدة الحوار بين دول الجنوب ودول الشمال فى أى محفل عالمى، رغم مئات المؤتمرات المشتركة التى تتعرض لقضية الهجرة إلى الشمال، وعشرات التوصيات التى تطالب بضرورة مساعدة الدول الأفريقية على تحسين حياة مواطنيها للتخفيف من معدلات الهجرة التى بلغت فى العامين الأخيرين أرقاماً قياسية جاوزت عشرة أضعاف معدلاتها السابقة، وفى غياب ضغوط أفريقية قوية تلزم الأوروبيين إعادة النظر فى سياساتهم العنصرية التى تستهدف الحد من هجرة الأفارقة، ثمة احتمالات قوية فى أن تستمر دول الجنوب الأوروبى فى سياساتها التى تخلص فى (دعهم يموتوا غرقاً لأن ذلك ربما يساعد على وقف الهجرة وينهى المشكلة من المنبع)، خاصة أن دول الجنوب الأوروبى تخضع لضغوط قوية من دول الشمال بما فى ذلك ألمانيا وفرنسا اللتان تحرضان على استمرار هذه السياسات العنصرية التى تحرم عشرات الآلاف من الشباب الأفارقة من حقهم فى الحياة، بدعوى أن الموت غرقاً يشكل الوسيلة الوحيدة الناجحة لإقناع الشباب الأفريقى الذى ربما تردعه حوادث الغرق بالتوقف عن حلم الوصول إلى أوروبا. لكن الواقع العملى يكذب ذلك، وفى غضون الأيام الأخيرة وبعد أسبوعين من غرق هذا العدد الكبير من الأفارقة وصل إلى مدينة باليرمو عاصمة صقلية 93 مهاجراً من الأفارقة، 72 رجلاً و29 سيدة، أنقذتهم سفينة تجارية تحمل علم بنما، ويقودها طاقم بولندى تصادف وجوده فى مكان الحادث، وبرغم اختلاف الأسماء والجنسيات فإن القصة تكاد تكون واحدة لآلاف المهاجرين الذين يأتون من دول جنوب الصحراء، المنطقة الأشد فقراً فى أفريقيا، يقطعون الصحراء الكبرى سيراً على الأقدام هرباً من بلادهم التى يسود العنف أغلبها وتعيش حالة فقر مدقع، وغالباً ما يفقد هؤلاء أعز أحبائهم فى هذه الرحلة القاسية عبر الصحراء ليصلوا إلى مدينة الزاوية على الساحل الليبى، بعد رحلة تستغرق أسابيع، خالى الوفاض منهكى الأجساد، ليبدأوا رحلة التفتيش عن أى عمل يقضون فيه بضعة أشهر، يمكنهم من سد رمقهم وتوفير بعض الأموال لسداد ثمن الرحلة إلى أوروبا فى قارب صيد عادة ما يكون قديماً متهالكاً يحمل أضعاف حمولته، وكثيراً ما يسقط بعض الركاب فى البحر خلال الرحلة بسبب غياب التوازن فوق القارب المكدس بالركاب، لكن القارب يمضى فى رحلته وكأن شيئاً لم يحدث، لأن الحى أولى من الميت ولا بديل عن الوصول إلى الساحل الأوروبى مهما يكن حجم التضحيات! وفى أحيان كثيرة يستأجر المهاجرون قارباً دون طاقم من الملاحين يبحرون به عبر البحر الأبيض يتبعون قرص الشمس إلى أن يقع المحظور، ويتحطم القارب فى مواجهة موجة عالية، وبرغم وجود أنظمة إنذار مبكر على معظم شواطئ وسواحل أوروبا الجنوبية تتباطأ فرق الإنقاذ فى الوصول إلى مكان المركب الغارق، أو تتقاعس تماماً عن مهمة الإنقاذ تطبيقاً لسياسة (دعهم يغرقون) التى يتواصل تنفيذها على امتداد العام الماضى وراح ضحيتها ما يزيد على 2015 شاباً من المهاجرين غرقوا جميعاً فى مياه البحر الأبيض قريباً من السواحل الأوروبية، بينهم 450 غرقوا قبل أسبوعين فى ثلاثة حوادث متتابعة، والمدهش فى القضية أن الناجين من الغرق يتم ترحيلهم عادة إلى ليبيا، حيث الميناء الذى خرجوا منه إلى عرض البحر ليبدأوا المحاولة من جديد، على أمل أن تمكنهم صدفة ثانية من الوصول إلى شاطئ أى مدينة أوروبية. وقبل عدة سنوات كان المصريون يشكلون أغلبية لا بأس بها من أعداد الضحايا ركاب رحلة الموت إلى أوروبا، لكن العدد تراجع كثيراً ليصبح الإريتريون فى مقدمة هؤلاء المهاجرين، يليهم السوريون الذين يهربون من بلادهم بسبب جحيم الحرب الأهلية التى راح ضحيتها ما يزيد على 320 ألف قتيل، إضافة إلى ما يقرب من 2 مليون سورى تركوا ديارهم ومنازلهم إلى المنفى فى الخارج هرباً من جحيم القتال. وبسبب الفوضى العارمة التى تسود ليبيا الآن، نتيجة الحرب الأهلية بين قوات الجيش الوطنى الليبى يقودها اللواء حفتر وعدد من الجماعات المسلحة المتطرفة التى تسيطر على مدينة طرابلس وعدد من المدن الليبية، تكاد تكون البلاد «سداح مداح» ومرتعاً واسعاً لعصابات خطيرة لتسفير المهاجرين على مراكب وقوارب معظمها آيل للغرق، نتيجة انعدام الرقابة وغياب السلطة الوطنية، والمضحك المبكى فى هذه التراجيديا الإنسانية أن الأوروبيين الذين لم يحركوا ساكناً بعد سيطرة «داعش» على أجزاء مهمة من ليبيا رغم خطورة ذلك على أمن البحر الأبيض والأمن الأوروبى، يشددون الآن على ضرورة ضبط هذه الفوضى التى جعلت من ليبيا قاعدة تنطلق منها موجات الهجرة إلى أوروبا التى تزداد وتيرتها بصورة خطيرة، إلى حد أن العالم لم يشهد منذ الحرب العالمية الثانية مثل هذه الأعداد الضخمة التى تهجر أوطانها بحثاً عن حياة أفضل، بسبب العنف المتزايد فى مناطق أفريقية كثيرة، وقلة الغذاء وانعدام فرص العمل وسيطرة حكومات ديكتاتورية لا يهمها حقوق الإنسان الأفريقى أو أى من مطالبه. وثمة تأكيدات بأن السفن الإيطالية انتشلت هذا الأسبوع فقط 11 ألف أفريقى من الغرق، وما من سبب لتجمع هذه الأعداد الهائلة القادمة من وسط وشرق وشمال أفريقيا ودول الشرق الأوسط، سوى الفوضى العارمة التى تسود ليبيا، وهيأت فرصاً واسعة لتجارة تهريب الأشخاص إلى حد ضاعف من أعداد الغرقى 10 مرات خلال عام واحد، ويكاد البحر الأبيض يتحول إلى مدفن كبير لعشرات الآلاف من الشباب الأفارقة يموتون كل عام، ومع ذلك يتوافد على ليبيا الآلاف من كل فج، لأن ليبيا تشكل أقرب نقطة اتصال بين الساحل الأفريقى والساحل الإيطالى. ويعود سبب الأزمة وجوهرها إلى أن الاتحاد الأوروبى قلص خلال العام الأخير برنامج إنقاذ «نورستورم» الإيطالى الذى نجح خلال عام 2014 فى إنقاذ ما يقرب من 100 ألف شاب، لصالح برنامج جديد «فورنكس» أقل كفاءة من برنامج الإنقاذ الإيطالى، تبلغ موازنته بالكاد ثلث موازنة البرنامج الأول، ولهذا لم ينجح برنامج «فورنكس» فى إنقاذ سوى 5 آلاف من الشباب الغرقى رغم أن الضحايا يفوقون كثيراً ضحايا الأعوام السابقة، ومع ذلك رفضت بريطانيا الإسهام فى دعم برنامج الإنقاذ الإيطالى، بدعوى أن عمليات الإنقاذ تشجع على المزيد من الهجرة، الأمر الذى جعل رئيس الوزراء البريطانى موضع انتقاد شديد خلال حملته الانتخابية الراهنة، وبرغم ضخامة مأساة الغرقى الأفارقة فى البحر الأبيض لا ينطوى برنامج حزب المحافظين على أى إشارة إلى هذه التراجيديا التى كان الموقف البريطانى سبباً قوياً فى حدوثها، واضطر رئيس الوزراء الإيطالى ماثيو زرنى إلى أن يطلب معونة الولاياتالمتحدة التى أعلنت بوضوح أن أوروبا تملك من الإمكانات ما يمكنها من تمويل برنامج الإنقاذ، لكن السياسيين الأوروبيين لا يتحمسون لهذه المهمة، لأنهم يعادون الهجرة، ويعتقدون أن تفاقم حالات الغرق يمكن أن تقضى على المشكلة من المنبع! ومع الأسف يتجاهل الغرب والأمريكيون دورهم فى إفشال الدولة الليبية، ولا يعتبرون أنفسهم مسئولين عن استيلاء هذه الجماعات المتطرفة على السلطة فى معظم المدن الليبية بعد أن غادر حلف الناتو ليبيا، وتركها مدمرة خاوية على عروشها لتصبح نهباً لهذه الجماعات بعد سقوط حكم العقيد القذافى، لكن الأوروبيين يحصدون الآن نتائج الفوضى التى زرعوها فى ليبيا وجعلتها «سداح مداح» لهذه الجماعات، وحولتها إلى قاعدة لموجات هجرة نشيطة تأتى من عمق القارة الأفريقية وشرقها وشمالها كما تأتى من دول الشرق الأوسط إلى الساحل الليبى تستهدف الوصول إلى أوروبا. إلى متى تستمر هذه التراجيديا الإنسانية المرة؟! وهل تفيق ضمائر الأوروبيين إلى حجم الجرم الضخم الذى يرتكبونه فى حق الأفارقة؟! ولماذا تصبر دول الاتحاد الأفريقى على هذه المأساة؟! وما الذى يمكن أن يفيده حوار الجنوب مع الشمال إن لم يخدم هذا الحوار حق الإنسان الأفريقى فى الحياة وحقه فى التنقل، دون أن يكون مصيره الموت غرقاً قريباً من سواحل أوروبا؟