نجحت ضغوط الحزب الجمهورى الأمريكى كما نجحت حملة الانتقادات الواسعة التى شنها عدد من خبراء مراكز الدراسات الاستراتيجية فى الولاياتالمتحدة وكبار المعلقين والسياسيين الأمريكيين، فى إلزام الرئيس الأمريكى أوباما إلغاء قراره بتعليق المساعدات العسكرية لمصر الذى أصدره دون مسوغات صحيحة قبل 21 شهراً إثر سقوط حكم جماعة الإخوان المسلمين، بدعوى أن سقوط حكم مرسى وجماعة الإخوان تم بانقلاب عسكرى قاده المشير عبدالفتاح السيسى وزير الدفاع أسقط أول رئيس مصرى منتخب! متجاهلاً خروج أكثر من 40 مليون مصرى إلى الشوارع والميادين فى تظاهرة لم يشهد لها العالم مثيلاً، تطالب بإسقاط حكم المرشد والجماعة! ومنذ هذا التاريخ استمرت ضغوط الرئيس أوباما على مصر على أمل أن تتراجع عن مواقفها، وتتوقف عن محاكمة قادة جماعة الإخوان المسلمين عن جرائم العنف التى ارتكبتها الجماعة، وتلتزم بإعادة دمج تنظيم جماعة الإخوان فى حياة مصر السياسية، تنفيذاً لمخطط شرير تواطأت فيه جماعة الإخوان مع الإدارة الأمريكية على تصفية القضية الفلسطينية على حساب مصر، وتوسيع نطاق قطاع غزة الجغرافى على حساب أراضى سيناء، بدعوى المساعدة على تخفيف الضغط السكانى فى قطاع غزة الذى يمكن أن يشكل عامل قلق يهدد أمن إسرائيل! وبصدور قرار الرئيس أوباما الجديد تعاود واشنطن إرسال صفقة الأسلحة المعلقة بقيمة 650 مليون دولار، تضم 12 مقاتلة من طراز إف 16 وعشرات من صواريخ هيلبورن وتجديدات شاملة ل150 دبابة، فضلاً عن قطع غيار العتاد الأمريكى الذى تملكه مصر التى أوقفت إدارة أوباما تصديرها، كما تلتزم الإدارة الأمريكية باستئناف توريد المعونة العسكرية السنوية لمصر التى يصل حجمها إلى 1.3 مليار دولار، تجعل من مصر ثانى أكبر دولة فى برنامج المساعدات العسكرية الأمريكية بعد إسرائيل. وعلى امتداد العام الأخير اشتدت حملة الانتقادات داخل الولاياتالمتحدة ضد سياسات أوباما الفاشلة فى الشرق الأوسط، يقودها الحزب الجمهورى المعارض، ويشارك فيها معظم ساسة واشنطن وخبراؤها الاستراتيجيون وكبار المعلقين فى الصحف الأمريكية الأكثر تأثيراً، نيويورك تايمز والواشنطن بوست والفورين أفيرز، يتهم جميعها أوباما بخذلان مصر، ومساندة جماعة الإخوان المسلمين الفاشية، رغم أن مصر تقود حرباً ضارية على جماعات الإرهاب، ويحرض الرئيس عبدالفتاح السيسى الأزهر أكبر مرجعية وسطية فى العالم الإسلامى على تجديد الفكر الإسلامى، وتصحيح الفكر المتطرف لجماعات الإرهاب التى تسىء تفسير النص الدينى لتبرر جرائمها الوحشية. والحق أن الرئيس أوباما لم يسلم أيضاً من ضغوط قوية من داخل إدارته، تمثلت فى البنتاجون الأمريكى (وزارة الدفاع) الذى اعتبر تعليق تسليم الأسلحة لمصر خطأ استراتيجياً بالغاً، يحرم واشنطن من حليف قوى يمثل ركناً أساسياً فى استقرار الشرق الأوسط وعاملاً حاسماً فى الحرب على الإرهاب، خاصة أن مصر لن تعدم البديل الذى يمدها بالسلاح الذى تريده، وكذلك كان موقف وزير الخارجية جون كيرى، الذى كان يحرص فى كل زياراته لمصر على امتداد العام الماضى على أن يؤكد للرئاسة والخارجية المصرية حرص الخارجية الأمريكية على إنهاء قرار تعليق المساعدات العسكرية لمصر، وعزمه على أن يكتب للكونجرس رسالة تؤكد التزام مصر بالخطوة الأخيرة من استحقاقات خارطة الطريق التى تتمثل فى انتخابات برلمانية نزيهة تجرى تحت رقابة منظمات المجتمع الدولى، وخلال زيارة كيرى الأخيرة لمصر أثناء انعقاد المؤتمر الاقتصادى فى شرم الشيخ، وعد كيرى الرئيس السيسى بصدور قرار إنهاء تعليق المساعدات العسكرية لمصر فى أسرع وقت ممكن، مؤكداً أن الأمر سوف يستغرق أياماً لا أسابيع. وما من شك أن تراجع الإدارة الأمريكية عن قرار تعليق المساعدات الأمريكية لمصر يمثل انتصاراً مهماً للرئيس عبدالفتاح السيسى الذى صمد فى مواجهة ضغوط الإدارة الأمريكية المتصاعدة، وقاد بحكمة ورصانة وهدوء معركة مضادة، أكدت للإدارة الأمريكية أن مصر تملك بدائل عديدة تمكنها من الحصول على السلاح الذى تريده، وأنها لن تستسلم لضغوط واشنطن، وتدخلها المرفوض فى الشأن الداخلى لمصر، خاصة أن مطالب واشنطن بوقف محاكمة قادة جماعة الإخوان المسلمين ودمج الجماعة فى حياة مصر السياسية أمر يرفضه المصريون بالإجماع، بعد أن جربوا حكم الجماعة الذى اتسم بالفشل الذريع والرفض المطلق من جانب كل فئات الشعب المصرى، فضلاً عن صدام الجماعة مع كل مؤسسات المجتمع المدنى بما فى ذلك القضاء والإعلام والمحكمة الدستورية العليا، ونزوع الجماعة الواضح للتسلط والاستبداد، ولجوئها إلى العنف والتظاهر المسلح، وترصدها لرجال الجيش والأمن فى عمليات جبانة، واستخدامها للسيارات المفخخة فى عمليات تدمير مديريات أمن القاهرة والدقهلية والإسماعيلية، وفى محاولة اغتيال وزير الداخلية السابق اللواء محمد إبراهيم فى أحد الشوارع الرئيسية لمدينة نصر، فضلاً عن تحالفها البغيض مع منظمتى القاعدة وداعش فى سيناء وليبيا، ومحاولتها تحويل ليبيا إلى قاعدة تنطلق منها عمليات الإرهاب، تطعن أمن مصر فى خاصرته الغربية، خاصة بعد أن سلمت الجماعة لداعش مدينة درنة الواقعة على مسافة 75 كيلومتراً من الحدود المصرية الليبية. وبرغم أن مصر سلمت الإدارة الأمريكية تقارير ووثائق تثبت صحة هذه الجرائم فإن إدارة أوباما أصرت على مطالبها، بدعوى أن استقرار مصر لن يتحقق فى غيبة تصالحها مع جماعة الإخوان المسلمين، مع علم إدارة أوباما أن موقفها المعاكس لمصر واستمرارها فى تعليق تسليم المساعدات العسكرية المستحقة، يشكل العامل الأساسى الذى يشجع جماعة الإخوان المسلمين، ويعطيها الأمل فى أن تعاود المشاركة فى الحكم مرة ثانية بمساندة أمريكية، رغماً عن أنف السيسى وأنف الشعب المصرى الذى يبغضها! لم يدخل الرئيس السيسى فى خلاف علنى مع واشنطن، ولكنه أدار معركته معها بذكاء وحكمة، ألزم الإدارة الأمريكية إعادة النظر فى قرارها، خشية أن تفقد مصر بالكامل، التى يمكن أن تجد بدائل عديدة فى فرنساوروسياوالصين، ظهرت بوادرها بوضوح فى صفقة توقيع عقد تسليم 24 مقاتلة فرنسية من طراز رافال قبل عدة أشهر، فضلاً عن تعزيز علاقات الصداقة والتعاون والمصلحة المشتركة مع روسيا، حيث حظى الرئيس بوتين فى زيارته الأخيرة للقاهرة بترحيب شعبى واسع لفت أنظار الصحافة الأمريكية، إضافة إلى توقيع اتفاق استراتيجى مع الصين نقل علاقات مصر والصين إلى مستوى خاص، ثم جاء المؤتمر الاقتصادى الذى شهد تحولاً مهماً أكدت فيه الشركات الأوروبية والأمريكية عابرة القارات، أن الاستثمار فى مصر استثمار فى أمن الشرق الأوسط واستثمار فى أمن البحر الأبيض والأمن الأوروبى واستثمار فى أمن العالم أجمع، يحقق منافع كثيرة لكل الأطراف ويعزز وظيفة مصر اللوجيستية، جسراً يربط بين الشرق والغرب والشمال والجنوب يمكن الولاياتالمتحدة والعالم أجمع من استخدام قناة السويس طريقاً آمناً كما يمكنها من استخدام المجال الجوى المصرى فى إطار عمليات التعاون والمصلحة المشتركة بين البلدين، بما يضفى على علاقاتهما طابعاً استراتيجياً يجعل كلاً منهما حريصاً على صون هذه العلاقات وتنميتها. وبرغم أن الرئيس الأمريكى أوباما أشار فى قرار رفع تعليق الحظر عن المساعدات العسكرية لمصر إلى سجل مصر فى الحفاظ على حقوق الإنسان، بما يؤكد ضرورة استجابة مصر لهذه الحقوق إن كان المقصود احترام حقوق المواطن المصرى، والارتقاء بالخدمات التى تقدم له، والحفاظ على كرامته، لأن ذلك يمثل مطلباً أساسياً من مطالب المصريين بعد ثورة يناير يتحتم على البيروقراطية المصرية أن تمتثل له، وتدرك أن الشعب هو السيد ودورها أن تكون الخادم الذى يهتم بشئونه، أما إذا كان المقصود بكلمات أوباما التدخل فى شئون مصر الداخلية، وإلزام المصريين قبول حكم جماعة الإخوان المسلمين رغم جرائمهم الإرهابية فى حق الشعب المصرى الواضحة للجميع، ورغم تحالفهم البغيض مع القاعدة وداعش، فأغلب الظن أن موقف مصر سوف يستمر على حاله، يرفض التدخل الأمريكى فى الشأن الداخلى لمصر، وأظن أن هذا ما سوف يسمعه الرئيس أوباما فى لقاء مباشر مع الرئيس السيسى يتسم بالشفافية والوضوح من الجانبين، يأمل الأمريكيون أن يتم فى غضون الأشهر القليلة المقبلة.