في مساء الثالث من يناير عام 1938، جلس الإذاعي المصري أحمد كمال سرور أفندي أمام الميكروفون داخل أحد استوديوهات هيئة الإذاعة البريطانية «بي بي سي» الكائن بمبنى بوش في الطرف الجنوبي من العاصمة لندن، ليبدأ في قراءة أول نشرة على أثر الإذاعة العربية بالعبارة الشهيرة «هنا لندن»، والتي تعد أولى الخدمات العالمية ل«بي بي سي». على مدى خمسة وثمانين عاما، رافقت إذاعة «بي بي سي» العربية أجيالا عدة، ومع دقات ساعة بيج بن وعبارة «هنا لندن» وأصوات مذيعيها تعلقت في عقول مستمعيها بذكريات خاصة، وكانت لهم المصدر الرئيسي للمعلومة والخبر والتحليل المعمق، لكن مع تطور وسائل الاتصال وتغير الطريقة التي يستهلك بها الجمهور الأخبار والمحتوى الإعلامي، إضافة إلى الضغوط المالية، قررت خدمة بي بي سي العالمية وقف البث الإذاعي باللغة العربية، اليوم الجمعة، ضمن خطة لإعادة الهيكلة وتسريع وتيرة التحول نحو الإعلام الرقمي. تمتعت «بي بي سي» العربية بتقدير كبير في جميع أنحاء العالم العربي، وكان أحد نجومها المصري أحمد كمال سرور، وهو من أوائل المذيعين بالإذاعة المصرية، وكان صوت سرور المصري الأكثر تميزا بها، وأشاد به المستمعون على نطاق واسع. الكثير من المذيعين المصريين لمعوا في «بي بي سي عربي» والجدير بالذكر أن المذيع أحمد كمال سرور كان من بين السبعة الذين حملوا على عاتقهم مسؤولية الإذاعة المصرية الوليدة، وبعبارة «هنا لندن» انتشرت النشرات الإذاعية، ومن أبرز الأسماء اللامعة كانوا أحمد سالم، ومحمد سعيد، ولطفي باشا، ومحمد فتحي. سرور الذي سافر إلى لندن خلال الحرب العالمية الثانية من أجل العمل بالإذاعة البريطانية، وعمل مراسلا حربيا ثم سافر إلى فرنسا عام 1940، وظل ينقل أخبار الحروب إلى أن سقطت فرنسا وعاد ليعمل فى إنجلترا. وفي أثناء تلك الفترة كان مؤشر جهاز الراديو هو الدليل رغم أن تحريكه يحتاج إلى دقة بالغة للتوقف على المحطة المستهدفة، الصوت يرتفع وينخفض، يظهر ويغيب، الموجة القصيرة أو المتوسطة، سبب للخذلان أحيانا، حتى أتيحت الفرصة لموجات «أف أم» لتحل محلهما وتزيد صوت «هنا لندن» وضوحا. الإذاعة في ذلك الوقت أيضا، كانت سيدة المشهد بعد أن دخلت كل مكان، أما الصحف فكانت لنخب المدن، ثم دخلت الشاشات إلى البيوت محلية محدودة قبل أن تنتقل إلى مرحلة الانتشار عبر الفضاء الشاسع والزمن المتسع. اتجهت «بي بي سي» لتخفيف المواد السياسية ومع مرور الوقت، قررت «بي بي سي» التخفيف من مساحة المادة الإخبارية السياسية إلى المواد الثقافية، في محاولة لدعم الخدمة كأداة ناعمة، وكان للغة العربية ورموزها من كبار الكتاب العرب نصيب وافر في برامج الإذاعة بينهم عميد الأدب العربي طه حسين. ومن أبرز الأسماء التي تردد صوتها عبر أثير «بي بي سي» في تلك الفترة، أم كلثوم خلال زيارة للندن في عام 1949 والمغنية اللبنانية فيروز في 1961، ومن هذه الأسماء التاريخية فيصل الثاني، ملك العراق الذي سجل في أبريل 1951 لقاء بثته بي بي سي بمناسبة عيد ميلاده السادس عشر، حيث كان الملك طالبا في مدرسة هارو ببريطانيا آنذاك، والأمير فهد بن عبدالعزيز، وزير الداخلية السعودي آنذاك. ثم أتت حرب السويس في 1956 لتكون بمثابة تحدٍ جديد أمام استقلالية الإذاعة البريطانية بعد مشاركة بريطانيا لكل من فرنسا وإسرائيل في الحرب. وفي عام 2003، قررت الإذاعة افتتاح مكتب لها بالقاهرة، تزامنا مع بدء الحرب على العراق، ليكون أول مكتب للخدمة العربية خارج مقرها الرئيس في لندن. وفي عام 2022، ومع تزايد الاعتماد على التقنية الرقمية والانتشار الواسع للهاتف المحمول وما حمله من تراجع للتكنولوجيا التناظرية ورغبة في تخفيض الإنفاق في ظل ظروف اقتصادية صعبة وضاغطة والاستثمار في الوسائل المفضلة الجمهور المتلقي، تقرر المؤسسة التحول إلى خدمة صوتية رقمية على حساب خدمتها الإذاعية التقليدية على موجاتها المعتادة. ستظل «هنا لندن بي بي سي» تنطلق باللغة عربية، لكن ليس كما عرفها جمهورها على مدار 85 عاما عبر جهاز الراديو التقليدي، وإنما عن طريق منصات إلكترونية تتصدرها صفحات أو حسابات على وسائل التواصل الاجتماعي وفقا لاحتياجات جيل جديد من الجمهور، يعتمد التقنية الرقمية وسيلته الأولى في المعرفة والتثقيف والترفيه.