كلما جاءت مناسبة لمناقشة مشكلات الاستثمار فى مصر يتجدد الحديث عن الإعفاءات الضريبية كأنها الفارس الذى سيأتى على جواده لينقذ ملف الاستثمارات من تعثره، وهو ما يتكرر الآن مرة أخرى بمناسبة المؤتمر الاقتصادى الذى دعا إليه السيد الرئيس. ولأن الطرح يتكرر سوف أكرر الإجابة التى سبق أن ذكرتها كثيراً، وهى أن الأهم لأى مستثمر -فيما يتعلق بالضرائب- هو المصداقية والعدالة واستقرار السياسات الضريبية، وهى مجموعة موضوعات تندرج كلها تحت ما يسمى اليقين الضريبى «Tax Certainty». هذا اليقين الضريبى هو موضوع أساسى على جدول أعمال المجموعات الاقتصادية الكبرى، وأصبح عاملاً مؤثراً فى القرارات الاستثمارية للشركات، خاصة فيما يتعلق باستثماراتها فى الدول النامية. ويعنى مبدأ اليقين الضريبى قدرة دافعى الضرائب على تحديد والتنبؤ بدقة بالتزاماتهم الضريبية الناشئة عن الاستثمار فى بلد ما دون مفاجآت، نتيجة تمتع هذا البلد بسياسة ضريبية مستقرة، ومنظومة تتميز بالوضوح، سواء للإدارة الضريبية أو لدافعى الضرائب. ومن أهم أدوات تعزيز هذا المبدأ تبسيط التشريعات الضريبية واتساق ممارسات الإدارة الضريبية ووضع نُظم فعالة لحل المنازعات الضريبية والإسراع فى إجراءات الفحص الضريبى. وعودة إلى مبدأ الإعفاء الضريبى، فلا يمكن مواجهة المشكلات الاقتصادية بحلول تهدد قدرة الدولة على الإنفاق العام وتحقيق متطلبات المواطنين، ويجب ألا ننظر تحت أقدامنا، فعندما نجحت تجربة تخفيض سعر الضريبة على الشركات إلى النصف فى عام 2005 أشاد الجميع بالتخفيض وتناسوا أن التجربة كانت تتضمن أيضاً إلغاء الإعفاءات الضريبية للشركات. إذن شماعة الضرائب لم تعد تكفى لتبرير انخفاض تدفقات الاستثمار الأجنبى المباشر الذى يحتاج أكثر لوضوح واستقرار السياسات الضريبية وجودة التشريعات وكفاءة ومصداقية الإدارة الضريبية، ووفقاً لأدبيات الضرائب فأفضل سياسة ضريبية فى العالم لا قيمة لها دون إدارة ضريبية قادرة على تنفيذها بشكل فعال. هذا فى العموم فيما يتعلق بمبدأ الإعفاء الضريبى، وتأتى التطورات الدولية فى مجال الضرائب لتؤكد انتهاء عصر السخاء فى منح الإعفاءات الضريبية، ففى أكتوبر من العام الماضى وافقت 137 دولة -تمتلك أكثر من 90% من الناتج المحلى الإجمالى العالمى- من بينها مصر على إطار شامل لمجموعة من القواعد الضريبية التى تهدف إلى معالجة التحديات الضريبية الناشئة عن رقمنة وعولمة الاقتصاد، ومن المتوقع أن يزيد عدد الدول المنضمة للقواعد الجديدة تدريجياً. وتهدف تلك القواعد إلى تحقيق اتفاق جماعى لحصول كل دولة على نصيبها العادل من الضريبة على أرباح كبرى الشركات متعددة الجنسيات، وخاصة شركات التكنولوجيا، فمعظم تلك الشركات تحقق أرباحاً طائلة فى كثير من دول العالم من خلال ممارسة أنشطتها عن بُعد عبر وسائل الاتصال الرقمى دون الحاجة إلى الوجود الفعلى. هذا يصعّب مهمة الإدارات الضريبية -خاصة فى الدول النامية- فى التحقق من أنشطة تلك الشركات على أراضيها، ما يتسبب فى ضياع حصيلة ضريبية كبيرة على الدول من ضريبة الشركات، ويؤدى إلى عدم العدالة فى المنافسة مع الشركات المحلية التى تدفع ضرائب عن نفس الأنشطة نتيجة وجودها فعلياً فى الدولة. وفى نفس الوقت ستتضمن هذه القواعد إجراءات لمكافحة التهرب الضريبى الدولى ومواجهة المنافسة الضريبية الضارة والمخاوف المستمرة بشأن تحويل الأرباح إلى الدول ذات معدلات الضرائب المنخفضة، من خلال الاتفاق بين الدول المنضمة لهذا الاتفاق على وضع حد أدنى عالمى لمعدل الضرائب الفعلى على كبرى الشركات دولية النشاط يبلغ 15٪، بحيث إذا كانت الدولة التى يتحقق فيها الدخل تفرض ضريبة بسعر 10% مثلاً فإن الدولة التى تقيم فيها الشركة سوف تستفيد بفرض ضريبة إضافية على أرباح تلك الشركة قدرها 5% للوصول إلى الحد الأدنى للضريبة البالغ 15%، بما يعنى أن الشركة سوف تدفع 15% من أرباحها كضريبة فى كل الأحوال. فعلى سبيل المثال، لو افترضنا أن مصر تطبق إعفاء ضريبياً على أرباح الشركات -كما هو الحال فى مشروعات المناطق الحرة مثلاً- أى أنه لن يتم تحصيل ضريبة شركات على أرباح تلك المشروعات فى مصر، فى هذه الحالة لو قامت إحدى الشركات الكبرى متعددة الجنسيات بممارسة نشاطها فى مصر من دون سداد ضرائب بسبب الإعفاء الضريبى فإن مصر سوف تخسر مرتين، الأولى خسارة الحصيلة الضريبية التى كانت ستتحقق، والخسارة الثانية أن هدف جذب الاستثمار لن يتحقق لأن الشركة ستدفع الحد الأدنى للضريبة البالغ 15% فى البلد الأم. وبالتالى ستعمل هذه القواعد على تقليل الدوافع لدى الشركات متعددة الجنسيات لتجنب الضريبة من خلال نقل أرباحها إلى الدول التى لديها معدلات ضرائب منخفضة، وفى نفس الوقت سوف تدعم قدرات الدول على استخدام السياسة الضريبية فى تحقيق توازن أفضل بين جذب الاستثمار وزيادة الإيرادات الضريبية. وبدأ العديد من الدول بالفعل بإجراء تغييرات فى تشريعاتها المحلية لإدخال قاعدة الحد الأدنى للضريبة بحيث تدخل حيز التنفيذ فى عام 2024. وهكذا يبدو أن تنفيذ الحد الأدنى العالمى لضريبة الشركات أمر لا مفر منه. وبالتالى سيكون لهذه القواعد تأثير على فاعلية الإعفاءات الضريبية، وهو ما يفرض على الحكومات إعادة تقييم دقيقة للحوافز الضريبية القائمة وتوخى الحذر عند التفكير فى تنفيذ حوافز ضريبية جديدة. ومن المهم التأكيد على أن الحوافز الضريبية بصفة عامة تقوم على مبدأ تحليل العائد مقابل التكلفة من خلال تقدير حجم الإيرادات الضريبية المفقودة مقابل العائد الاقتصادى المحقق من جذب الاستثمارات، فإذا لم يتحقق هدف جذب الاستثمارات فإن التكلفة تصبح بلا عائد وبلا فائدة. لذلك تتضمن تشريعات دول كثيرة إلزاماً للحكومة بأن تقدم للبرلمان مع الموازنة العامة للدولة سنوياً ما يسمى تقرير النفقات الضريبية، وهو عبارة عن تحليل تفصيلى للعائد الاقتصادى من تقديم الحوافز الضريبية لتحديد مدى جدوى استمرار تلك الحوافز. وأخيراً فإن الإعفاءات الضريبية ليست عصا موسى، وعلينا قبل التفكير فى منح إعفاءات ضريبية جديدة أن نقوم بتقييم ما تقدمه مصر من إعفاءات ضريبية للشركات الكبرى والعائد المحقق منها ومدى جدواها بالمقارنة بعوامل أخرى أكثر أهمية فى جذب الاستثمار. *نائب وزير المالية السابق وخبير الضرائب الدولية