أحب أن تطلع معى على نصيحة الكاتب الأمريكى الساخر مارك توين (1867) الشهيرة إلى وزير الحرب الأمريكى فى حملة الإبادة للهنود الحمر، التى نقلها لنا قائلاً: «قلت له: إن عليه أن يجمع الهنود كلهم فى مكان واحدٍ ويذبحهم مرةً واحدة وإلى الأبد! وإذا لم توافق على هذه الخطة (!)، فإن البديل الناجع هو الصابون والتعليم (soap and education)، فالصابون والتعليم أنجع من المذبحة المباشرة، وأدوم وأعظم فتكاً.. إن الهنود قد يتعافون بعد مجزرة أو شبه مجزرة، لكنك حين تُعَلِّم الهندىَّ وتغسلُه، فإنك ستقضى عليه حتماً، عاجلاً أم آجلاً.. (التعليم والصابون) سينسفان كيانه ويدمران قواعد وجوده.. سيدى! اقصف كل هندى بالصابون والتعليم ودعه يموت!». هذه نصيحة توين، وهى نصيحةٌ كاشفةٌ عن أثر التعليم على العقول التى تعتبر حجر الزاوية فى بناء الأمم ونهضتها وصياغة حضارتها التى تمتاز بها عن الآخرين! وعندما تطالع هذه النصيحة تعلم أن الخلل الذى أصاب المشهد المصرى، وجعله أسيراً فى زنزانة الطغيان سنين متطاولة بعيداً عن فكرة «التغيير»؛ هو أننا لم نحسن صناعة «العقل العلمى» الذى لا ينبهر ب«صابون» الثقافة الوافدة، فيغتسل من قيمه وحضارته وانتمائه إلى وطنه؛ ليكون فارغاً مهيأً لاستقبال كل فكرةٍ سالبةٍ للعقل والإرادة والإبداع، ناظراً إلى الآخر نظرة «الولع بالتقليد» كما يقول ابن خلدون، والأمم لا تنهض بالتقليد المجرّد، بل بالإبداع الذى يفارق النسق، ويبتكر الجديد. وغفلة النخب والساسة وقادة الفكر والعلم والسلطة فى المجتمع عن هذه الحقيقة، وانشغالهم «الرائع» بصراعاتٍ لا تنتهى، وصخبٍ لا يصمت يوماً، أنشأ أجيالاً صدئت من التعليم البالى، والفكر المهمل، والإبداع المحاصَر، والمناهج التى حازت قصب السبق فى الاستقالة من التاريخ! وقد كان من رأى أستاذنا العلامة محمود محمد شاكر، رحمه الله، أن نهضة مصر إنما تكون بالتعليم أولاً وأخيراً، وصدق؛ فكل استثمارٍ يكون بعيداً عن الإنسان هو استثمارٌ لا فائدةَ منه، والسلاح الذى لا تحمله يدٌ واعية يستوى والحطبَ فى ميزان القوى، والمصنع الذى لا يديره عقلٌ تحركه فكرة لن يكون سوى مساحةٍ جديدة من الضجيج والتلوث! ولو أن الجهد الذى يُصْرَف فى النقاشات والنزاعات كان موجهاً إلى تطوير المنهج «الذى لا تصنعه يد خارجية»، والارتقاء بأدوات التعليم «الذى لم تبهره فقاقيع الصابون المستورد»، لكنا رأينا أجيالاً تختصر الزمن، وتنهض بمصر إلى مكانتها التى تستحق! ولكن.. يبدو أن الكثيرين انشغلوا بمصالحهم الحزبية والسياسية الضيقة، وأهملوا التعليم حتى صار مجالاً لسماسرة التعليم الذين حولوه إلى «طبقية مقيتة»، لا تعرفها الأمم المتحضرة، فهذه كلية قمة، وتلك كلية الشعب! حتى صارت كليات القانون، التى إليها احتكام الناس، وبها قيام العدل بينهم، كلياتٍ شعبيةً يلتحق بها بعضُ من ضعف تحصيله ومجموعه، وصارت كليات اللسان العربى وآدابه بعيداً عن تصنيف «القمة» فى النظر العام، بينما هوية الأمة فى لغتها ودينها وثقافتها! إن بين يدينا مهمةً عظيمةً، وهى «تجويد الإنسان»، ولن نصل إلى هذا إلا إذا أحسنا تعليمه، وكل تجارب العالم شرقاً وغرباً لم تنطلق إلا من قاعدة «التعليم»، الذى قد يكون سبيلاً للنهضة أو مرادفاً للذبح ولكن.. بحدِّ الكِتَاب المدرسى!