فى إحدى المقابلات قال جيرى ساينفيلد، وهو الكوميدى الأمريكى صاحب أحد أشهر مسلسلات الكوميديا (ساينفيلد) فى أمريكا والعالم، إن أكثر شىء يحبه فى الحياة هو الطاقة؛ حيث يُمارس، كل يوم، رياضة تأملية تُعرف ب«التأمل الارتقائى» إن صحّت الترجمة، وهى إحدى أقدم أنواع الرياضات التأملية فى التاريخ. ودون الخوض فى تفاصيل الطقوس، فإن الهدف من هذا العمل هو شحن الذهن والجسم بطاقة كبيرة، وملؤه بهدوء عارم يُخلص المرء من التوتر الناتج عن ضغوط الحياة. يقول جيرى بأنه كان، خلال تسع سنوات، نجم المسلسل، والمنتج، والكاتب الرئيس، ناهيك عن إشرافه على التصوير وإنتاج الحلقات. وفى الوقت نفسه كان يسافر بين الولايات لتقديم عروضه الكوميدية، أى باختصار، كان كالطائرة التى، كما قال لى أحد الطيّارين، لا تُدرُّ أموالاً إلا وهى تُحلّق فى السماء. كان جيرى يمارس التأمل كل يوم وقت الغداء، وبعد أن ينهى جلسته التى تستغرق عشرين دقيقة، يعود إلى التصوير وهو ملىء بالطاقة وكأنه نام بعمق لليلة كاملة. «هكذا استطعتُ أن أنجو خلال السنوات التسع تلك» يكرر «جيرى» هذه الجملة كلما تحدث عن حياته العملية. ثم يزيد: «انظر إلى سريرك بعد أن تستيقظ من النوم، ماذا ترى؟ وكأنه ساحة حرب، أليس كذلك؟ أتعلم ماذا فعلت؟ لقد نقلتَ صراعاتك ومعاناتك من يومك إلى سريرك.. لقد آن الأوان أن تتوقف!». وفى برنامجى الرمضانى «ما قل ودل»، تحدثتُ عدة مرات عن الطاقة، وما زلتُ مستغرباً أن هناك كثيراً من الناس يصرّون على أن فكرة «الطاقة الإيجابية» ما هى إلا مثاليات وفلسفات ليس لها أثر حقيقى فى الحياة. ولهؤلاء أسأل: كيف تشعرون فى منتصف النهار عندما تضعون رؤوسكم على مكاتبكم وتتمنون لو أنكم تنامون حتى المساء؟ قد يكون لرداءة طعامكم وإهمالكم للرياضة دور فى ذلك الإحساس البائس، لكن الأمر لا يقتصر على هذا. اسأل نفسك الآن: عندما تصحو بعد ليلة هادئة مليئة بنوم عميق، هل يراودك الخمول نفسه فى منتصف النهار؟ على الأغلب كلا، والسبب هو أنك شحنت نفسك حتى امتلأت تماماً، فأصبح لديك مخزون دفعك للعمل والنشاط طوال اليوم. والسؤال المهم هو: من أين تأتينا الطاقة؟ اذهب إلى إحدى القرى واقضِ فيها أياماً، ثم عُد إلى مدينتك المزدحمة وقارن بين الناس فى المكانين، ماذا ستجد؟ من يعيشون فى القرى أكثر ابتساماً، وصحة، ونشاطاً، رغم أنهم قد لا يمارسون الرياضة إلا نادراً، بعكس أهل المدينة، هل تعلم السبب؟ لأن من يعيش بعيداً عن المدينة لا يشعر بأن الوقت كالسيف، ولا تتكالب عليه الرغبات والأحلام البالغة عنان السحاب. قد تتشابه أيامه ولكنها لا تتنافر، لا يُؤرّقه المستقبل كثيراً ولا يقضّ مضْجعه، ويكفيه أن يجلس على دكة باب بيته فى الصباح ويحتسى القهوة وينظر إلى الشجرات الصغيرة المحيطة به ليشعر بأن الدنيا بخير. عندما كنا صغاراً كان أمام كل بيت فى الحى كرسى خشبى يتسع لثلاثة أشخاص، وكلما مررتُ مع أصدقائى بدراجاتنا الهوائية رأيتُ أصحاب البيوت يجلسون عليها. وإذا ما دخلنا إلى بيت أحد أصدقائنا رأيتُ أسرته تفترش الفناء، تحتسى القهوة والشاى وتأكل الفواكه، كل هذه الممارسات هى طقوس تأمل حتى إن كانت غير مقصودة. إننا نشعر بالإرهاق اليوم لأننا تخلينا عن منابع الطاقة الحقيقية، تخلينا عن التسامح الذى يفتح مسامات الروح لتخرج منها سموم الحقد والغيرة. لم نعد نحتك بالطبيعة التى كانت كالمرهم البارد، يُسكّن حُروق الحياة وخيباتها وانكساراتها. لم نعد نُحب حقّاً، والحب هو أكبر مصدر للطاقة لأنه يحوى كل الأشياء النقيّة. تخلينا عن قراءة الكتب القيّمة واكتفينا بتصفح الأخبار السريعة وقراءة المقالات، فتبلّدت عقول البشر، وصار السطحى عميقاً، والسخيف مقبولاً فقط لأنه عصْرى، وهذا أحد أشكال البلادة. كنتُ كلما عدتُ من يوم طويل ملىء بالأعمال، أتمنى فى نفسى أن أتفرغ للكتابة، ولكننى اكتشفتُ أننى لا أستطيع أن أكتب فى أيام الإجازات؛ فالحركة تولد طاقة، والطاقة تبعث الثقة فى النفس، والثقة هى أحد أسرار الحياة التى تجعل الإنسان أكثر إنتاجاً. ولكى يتجنب أحدنا اليأس والإحباط فى حياته فإنه فى حاجة إلى أن يبحث عن مصادر الطاقة الإنسانية، يحتاج أن يبتعد عن ضجيج الشوارع، وأضواء الأسواق، وصخب الأموال، وزحمة الأحلام، ليختلى بنفسه قليلاً ويتأمل، علّه يجدها أو يعيد إيجادها من جديد. قال أحد الحكماء: «يكفى بالمرء تعباً أن يكون إنساناً». الطاقة هى الجرأة على القفز فى داخل فوهة النفس، هى شجاعة إفراغ الذاكرة، وكَنْس الأحلام التى لم نفعل شيئاً لتحقيقها. هى النور المتوهّج فى آخر النّفق الذى نسميه «حياة». هى الجانب الآخر للإنسان، المنير دائماً، المنسى غالباً، يتراءى لنا فى الناجحين، لكننا نغوص فى أمعاء النفق حتى تهضمنا ظروفه، وتعتصرنا ظلمته، دون أن نحمل معنا قَبَساً. إن متسلق الجبال يدرك أن الإنسان لا يحتاج إلى طاقة ليصعد الجبل، ولكنه يحتاج إلى الجبل ليمنحه طاقة.