بعد ثورة يناير انتعشت الآمال فى استعادة الأموال المهربة للخارج حتى ظن البعض أنه سيتم توزيع هذه الأموال على الشعب، بل وضعها البعض ضمن إيراداته المتوقعة! ومرت الشهور دون استرداد شىء من تلك الأموال.. فهل ضاع الأمل بعودتها؟ لقد طلبت مصر من الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبى تجميد الأموال والأرصدة المصرفية الخاصة بمبارك وعدد من المقربين منه، لكن تجميد الأموال شىء، وردها شىء آخر، إذ تظل الأموال المتحفظ عليها محفوظة لحين اتخاذ الإجراءات القانونية لاستردادها. عند الحديث عن الأموال المهربة للخارج تتجه الأنظار إلى سويسرا باعتبارها «مغارة على بابا» التى يلجأ إليها كل من يريد إخفاء أمواله، والسبب هو أنها اشتهرت بقاعدة «السر المصرفى» أو الحسابات السرية، وتبعتها دول أخرى مثل بلجيكا والنمسا ولوكسمبورج. ويمكن التمييز بين نوعين من الودائع الأجنبية: الأول: ودائع مواطنى الدول الغربية الذين يلجأون لسويسرا لأن قانونها لا يعاقب على التهرب الضريبى (عدم الإعلان عن دخل معيّن) وإنما يعاقب على التحايل أو الغش الضريبى (التلاعب بالبيانات الضريبية) بينما لا تفرق قوانين الدول الأخرى بين التهرب والتحايل. الثانى: ودائع حكام ومسئولين ورجال أعمال من دول أمريكا اللاتينية وأفريقيا خاصة، وهذه أموال منهوبة. تميزت سويسرا بثقافة تمتد لقرون تلتزم السرية فى الصفقات التجارية، وعند اندلاع الحرب العالمية الأولى هاجرت رؤوس أموال كبيرة إلى سويسرا التى التزمت الحياد، وفى فترة ما بين الحربين كانت سويسرا مركزاً للصفقات السرية. وأثناء الأزمة الاقتصادية العالمية التى بدأت عام 1929 بذلت ألمانيا وفرنسا جهوداً كبيرة لمنع تهريب رؤوس الأموال إلى سويسرا، لكنها فشلت، ورفضت البنوك السويسرية تسليم أى معلومات عن عملائها. كانت جنيف وزيورخ بمثابة الساحات التى طورت فيها سويسرا خدمات مالية لتهريب رؤوس الأموال والتهرب الضريبى. ومنذ عام 1935 أجاز القانون رسمياً احتفاظ البنوك والمؤسسات المالية بالطابع السرّى لمعلومات العملاء. لقد أصبحت صناعة الصيرفة والاستثمار المالى عصب الاقتصاد السويسرى، وتشير تقديرات إلى أن الأصول المالية غير المعلنة المودعة فى سويسرا تقارب 700 مليار دولار. لكن تزايدت الضغوط على سويسرا لإلغاء الحسابات السرية، وإذ لم تعد قوانينها متطابقة مع ما يجرى بالعالم، كان على الحكومة السويسرية أن تصدر قوانين جديدة، لتخفيف الضغوط الدولية عليها، وقد أقرت سويسرا تشريعاً ينص على أنه يمكن لحكومتها إيجاد حل ودى مع الدولة طالبة الاسترداد فى حال عدم وجود أحكام قضائية، أو تقاعس القضاء عن تزويدها بأدلة مقنعة أو حكم يدين الشخص المتهم، والسماح بتجميد الأموال فى حالة استحالة التعاون القضائى مع الجهات المعنية، أو مصادرتها فى حال ثبوت عدم مشروعية مصدرها، أو إعادتها إلى بلدانها. وأصبحت سويسرا تحتل المرتبة الأولى فى قائمة البلدان التى أعادت الأموال غير المشروعة، وإن كان ما أعيد لايعد شيئاً بالمقارنة بالأموال المنهوبة. وترتكز مجموعة القوانين السويسرية الخاصة بإعادة الأموال ذات المصادر الإجرامية على خمس دعائم: - محاربة الرشوة - التأكد من مصادر الأموال؛ بقيام البنك بالتعرف على هوية الراغب فى افتتاح حساب جديد، والاطلاع على هوية المستفيد الفعلى من الحساب. - إبلاغ السلطات عند ملاحظة أى تصرفات غير قانونية. - طلب المساعدة القضائية فى الحالات الإجرامية بناء على طلب من البلد الأصلى. - إعادة الأموال ذات المصدر غير الشرعى للبلد الأصلى. كما أن قانون المساعدة القضائية يسمح بالوقوف إلى جانب البلد الضحية، وفى بعض الحالات، دفعت سويسرا أتعاب محامين ليساعدوا على استكمال الشروط من أجل استعادة الأموال المهربة. وقد استعانت سويسرا بإجراء دستورى يسمح بالتدخل لحجز أموال يحوم حولها شك فى أنها مودعة بطريقة غير شرعية. وقد أقرت سويسرا «القانون الخاص بإعادة أموال وممتلكات تم اقتناؤها بطريقة غير شرعية من قبل أشخاص يتقلدون مهامّ سياسية» ليكون مُكمّلا لقانون المساعدة القضائية، ليتم استخدامه فى حالة البلدان التى لا تقوى على استيفاء شروط المساعدة القضائية، فهو يسمح للسلطات بأن تعين قاضياً يقوم بمصادرة الأموال وإعادتها إلى البلد المتضرر. وقد أعيدت بالفعل أموال مودعة فى سويسرا، لكن المبالغ المستردة ضئيلة إذا قورنت بحجم الأموال المنهوبة؛ التى تتجاوز تريليون دولار كل عام.