استراتيجية قديمة تلك التى تقدم بديلين كلاهما أسوأ من الآخر وتضعنا دائماً أمام خيار وحيد هو اختيار الأقل سوءاً؛ هكذا قدم الإخوان المسلمون أنفسهم مصرياً وإقليمياً وعالمياً من خلال تنظيمهم المحلى والدولى على اعتبار أنهم النموذج للإسلام الوسطى المتسامح القادر على كبح جماح كل التيارات المتشددة طالما ظل فى دائرة الحكم أو قريباً منها؛ وهو القادر بوجوده فى النور من خدمة المصالح الإقليمية والدولية من خلال السيطرة على قيادات وكوادر تلك الجماعات المتطرفة وإبطال حجتها ودعايتها بضرورة أن يكون الحكم الإسلامى هو السائد فى البلدان التى يشكل المسلمون فيها غالبية دينية؛ بل نجحوا فى أن يتبنى هذا الفكر فى مصر والدول العربية بعض أقطاب اليسار والليبراليين الذين يروجون لفكرة احتواء الإخوان كحل وخيار لوقف العنف والقضاء على الإرهاب وأن محاربتهم -رغم حملهم السلاح ضد الدولة- يزيد من حالة الاحتقان والعنف وسفك الدماء، وأن علينا أن نحتوى الإخوان درءاً لخطر أنصار بيت المقدس وداعش وغيرهما من الجماعات المتطرفة. يأتى ذلك رغم أن الجميع يدركون أن تنظيم الإخوان هو الراعى الرسمى لكل أفكار التكفير وأن أفكار حسن البنا وسيد قطب وغيرهما من منظرى الجماعة تحمل الإقصاء والتكفير والتمييز ضد الآخر حتى ولو كان مسلماً (سنياً أو شيعياً) لا يؤمن بأفكار منظريهم حتى تحول إسلام الإخوان إلى إسلام يختلف شكلاً وموضوعاً عن الإسلام الوسطى الذى يعبر عنه فكر ومنهج الأزهر الشريف وكبار علمائه التاريخيين من قادة التنوير أمثال الإمام المجدد محمد عبده. وهكذا يأتى نموذج أبوبكر البغدادى الذى أعلن نفسه خليفة لما يطلق عليه الدولة الإسلامية فى العراق والشام ISIS فى مقابل نموذج رجب طيب أردوغان رئيس تركيا الجديد الذى يروج له تيار الإسلام السياسى فى مصر والمنطقة على أنه أحق المسلمين بالخلافة، وأن تركيا أرض الخلافة كما يروج الشيخ المصرى/القطرى يوسف القرضاوى، أحد أهم أقطاب الإخوان المسلمين؛ وكان صعود تيار الإخوان بعد ثورات الربيع العربى فى معظم بلدان المنطقة الخطوة قبل الأخيرة لجلوس أردوغان على ذلك المقعد؛ وتلك كانت الفكرة التى كان يروجها أردوغان والقريبون منه لدى واشنطن وعدد من العواصمالغربية بأنه ومن خلال تنظيم الإخوان قادر على ضبط إيقاع المنطقة والوقوف فى وجه التغول الإيرانى وإحداث تحول ديمقراطى وسياسى، بما لا يضر مصالح تلك الدول الغربية، وأن تكون منطقة الشرق الأوسط جاذبة لعودة كل المتطرفين الإسلاميين من كل الدول الأوروبية والمناطق الحيوية لتلك الدول. نموذج أردوغان فى مقابل نموذج البغدادى يجعل المراقب من الخارج والمواطن الذى يعيش فى المنطقة يختار نموذج «أردوغان تركيا» على اعتبار أنه الأقل ضرراً ونموذج للنهضة ومحاربة الفساد والتنمية والتقدم الاقتصادى متغاضياً عن ديكتاتورية أردوغان وقمعه للحريات والمعارضة وفساده العائلى والحزبى والسياسى وتلاعبه بالقانون والدستور، كى يمنح لنفسه صلاحيات تدعم مشروعه الإمبراطورى «العثمانلى».. تماماً كالنخبة المصرية التى تدعو لاحتواء الإخوان لنفس الأسباب وهى الابتعاد عن التيار المتشدد من الإسلاميين متغاضية عن ممارسات الإخوان التى أثبتت عدم صلاحيتهم للعمل السياسى وأن فكرهم لا يصلح لقيادة مجتمعات عانت كثيراً من القمع والفساد تحت رايات وعناوين كبيرة، وآن لها أن تتخلص من كل هذا وألا تخضع لأى سلطة حتى ولو كانت سلطة الدين والإمام والمرشد والمرجعية والولى. والمتأمل لمشروع أردوغان «العثمانلى» يجد أنه لا يعترضه عائق تركى مهم من الناحية النظرية، ذلك أن حقبة حزب العدالة والتنمية قلبت الأوضاع التركية رأساً على عقب، ففى الاقتصاد زاد دخل الفرد ثلاث مرات، وصار الاقتصاد التركى يحتل المرتبة ال15 فى العالم، وقد وعد أردوغان بنقله إلى المرتبة العاشرة بعد أقل من عقد واحد، واستطاع الحزب أن يقصى الجيش عن السياسة وأن يبدد محظورات تاريخية من بينها المسألتان الكردية والأرمينية، من دون تقديم حل لأى منهما حتى الآن، وعصف بكل المعارضين وقمع المظاهرات فى منهج فكرى واضح لم يخفه الرجل منذ كان عمدة لإسطنبول عام 1994؛ حين كان عضواً فى حزب الرفاه بزعامة نجم الدين أربكان، وكان يحلو له ترديد أبيات لشاعر إسلامى وقومى كان يقول «منارات الجوامع ستكون حرابنا وقببها خوذنا وفناءاتها ثكناتنا» فحوكم بسببها بتهمة الحض على الكراهية الدينية، وصدر حكم بتجريده من منصب رئيس بلدية إسطنبول عام 2001، وقضى بالسجن 10 أشهر خرج بعدها ليتولى رئاسة «حزب العدالة والتنمية» الذى خلف حزب الرفاه وليصبح من بعد رئيساً للوزراء. أردوغان من داخله يدرك استحالة أن تنضم بلاده إلى الاتحاد الأوروبى وأن السيناريو الأصلى وليس البديل هو أن تقود أنقرة العالم العربى والإسلامى تحت راية الخلافة أو أى مسمى سياسى آخر يجعل من تركيا بوابة الشرق الأوسط تجارياً وسياسياً، ولكن يبقى خطر المراهنين من بقية التيارات الفكرية على إمكانية التعايش مع تلك الطموحات السياسية لأن المروع فى مثل هذه الرهانات أنها تهمل تجربة أكثر من أربعة قرون انتقلت خلالها عواصم العرب الحضارية مثل القاهرة وبغداد ودمشق، من مدن مشعة على العالم إلى خرائب ريفية تافهة مع انتهاء السيطرة العثمانية. وعلى النخبة أن تدرك أن أهم سلاح فى الترسانة الدعائية والعسكرية للدول التى تستهدف المنطقة هو تيار الإسلام السياسى اعتماداً على حالة الخداع التى يعيشها النخبة وقطاعات من المجتمع فى فهم حقيقة تلك التيارات التى تعيد إنتاج أفكارها وأدوارها على فترات ويكفى أن نختم بقول المفكر وعالم الجغرافيا الراحل جمال حمدان الذى قال: «الجماعات الإسلامية المتشددة وباء دورى يصيب العالم الإسلامى.. وأن الإسلام السياسى تعبير عن مرض نفسى وعقلى..». ولن نذهب معه لرأيه القاسى الذى قال فيه وهو أكثر المعادين لاتفاقية السلام مع إسرائيل حين قال: «شرط تقدم مصر والعرب والعالم الإسلامى شنق آخر الجماعات الإسلامية بأمعاء آخر إسرائيلى». ونقول لهؤلاء الذين يلهثون وراء خلافة أردوغان أو خلافة البغدادى، إن الحقيقة القاسية التى وصل لها جمال حمدان فى أبحاثه: «إن العالم الإسلامى حقيقة جغرافية.. لكنه خرافة سياسية».