منذ أن وجدت جماعات الإرهاب فى الفوضى التى تضرب أطنابها فى ليبيا ملاذاً وقاعدة تطلق منها عملياتها الهجومية على مصر، وتضرب غرباً عدداً من المناطق والأهداف فى الوادى الجديد والفرافرة والضبعة وصولاً إلى مارينا، والمصريون يحسون قلقاً بالغاً على حدودهم المفتوحة مع ليبيا، بطول حدود يتجاوز ألف كيلومتر يمكن لجماعات الإرهاب أن تخترقها فى مواقع عديدة لترتكب جرائمها على الأرض المصرية، ثم تعود مسرعة إلى الداخل الليبى! ولا مناص من الاعتراف بأن هذه الجماعات تلقى عوناً وتأييداً من بعض الجماعات المسلحة داخل ليبيا خاصة الجماعات العقائدية الأكثر ارتباطاً بجماعة الإخوان المسلمين وتنظيم القاعدة، رغم أن هذه الجماعات لا تشكل أكثر من 15%، يناهض سيطرتها على البلاد معظم القبائل وبقايا الجيش الليبى وأغلبية قوى المجتمع المدنى من مهنيين وتجار ومثقفين، يرفضون سطوة الجماعات المسلحة على مقدرات البلاد. وبرغم الهزيمة القاسية التى لقيتها هذه الجماعات فى الانتخابات البرلمانية الأخيرة التى أزاحت معظم أنصارها لصالح تيارات وطنية أكثر اعتدالاً شكلت غالبية البرلمان الجديد، ترفض قوى الشر والتطرف الاعتراف بنتائج الانتخابات، وتتمكن بمعونة ضخمة من قطر من السيطرة على مطار العاصمة طرابلس فى حرب ضروس استمرت عدة أيام كان يحرض عليها مفتى ليبيا صادق الغريانى، أحد أصدقاء جماعة الإخوان المسلمين الذى هرب أخيراً من ليبيا إلى لندن ومن لندن إلى قطر. وتحاول هذه الجماعات الآن الإبقاء على البرلمان القديم (المؤتمر) رغم انعدام شرعيته! وترفض الاعتراف بالحكومة المنتخبة، لتعيش ليبيا حالة انقسام جديد، تتمثل فى وجود برلمانين؛ أحدهما يجتمع فى طرابلس والآخر فى طبرق، وحكومتين تتصارعان على السلطة والقرار! ما هى مصلحة قطر فى أن تخرج عن الإجماع العربى، وتشق مواقف دول الخليج، وتحارب معركة خاسرة على مسافة آلاف الأميال من أجل دعم منظمات الإرهاب والتطرف فى ليبيا وقسمة البلاد على هذا النحو المشين، بدلاً من أن تحاول لملمة جراح الليبيين ولم شمل البلاد بعد التدخل العسكرى لقوات حلف الناتو الذى شاركت قطر فى تخطيطه وتنفيذه، وما إن انتهى الحلف من مهمته بإسقاط حكم القذافى حتى غادرت قواته البلاد، وتركتها خراباً يباباً تعانى الفوضى وخطر الانقسام بسبب صراعات الجماعات المسلحة على السلطة؟! أكاد أجزم بأنه لا مصلحة البتة لقطر فى ليبيا سوى تهديد أمن مصر عن قرب، وتدبير المؤامرات بليل من أجل دعم جماعات الإرهاب التى تهدد أمن مصر فى حدودها الغربية، وحصار العمالة المصرية والتضييق عليها، وإحاطتها بمناخ عدائى يجبرها على النزوح الجماعى والعودة إلى مصر لتزيد من مشاكل الحكم هناك. ومع الأسف أهمل حلف الناتو ليبيا بعد سقوط حكم القذافى وكأنها سقطت من خريطة العالم! وكذلك فعلت الولاياتالمتحدة فى ظل إدارة أوباما، التى تناست وتجاهلت تماماً الآثار المريعة للتدخل العسكرى الخارجى على أوضاع ليبيا بعد سقوط القذافى، وبدلاً من أن تفتش واشنطن عن جماعات الإرهاب التى قتلت سفيرها فى بنغازى، وتعاون ليبيا الجديدة على التخلص من هذه الجماعات، سحبت طاقمها الدبلوماسى وأغلقت سفارتها! وكذلك فعلت كل الدول الغربية لتصبح ليبيا فى مواجهة مصير بائس، دولة بلا قانون ودون أى عون دولى، ودون أى مؤسسات تمكنها من الحفاظ على أمن المواطنين والحدود، تواجه فوضى الإرهاب، وتحكمها عصابات مسلحة من كل لون، تكاد تتحول إلى مجرد قاعدة تنطلق منها أعمال الإرهاب ضد مصر تهدد حدودها الغربية. لكن ما فعلته قطر كان الأنكى والأشد نذالة، عادت إلى ليبيا لتبعثر أموالها، التى أغدقتها العناية الإلهية على الشعب القطرى، على جماعات الإرهاب، تمولها وتحرضها على مصر، وتشرخ وحدة البلاد فى مؤامرة مسلحة تتمكن من سلخ العاصمة طرابلس والسيطرة على مطارها الدولى، فى عملية عسكرية توحدت خلالها الجماعات المسلحة الجهوية والعقائدية يقودها مفتى الديار صادق الغريانى، أقرب رجال الدين الليبيين إلى جماعة الإخوان المسلمين، ضد قوات اللواء حفتر الذى يسعى إلى هزيمة الإرهاب ويحاول تخليص بلاده من فوضى الجماعات المسلحة. والأكثر مدعاة للأسف هذا الطنين الواسع عن عمليات قصف جوى تدعى واشنطن أن مصر والإمارات المتحدة قامت بتنفيذها على دفعتين، استهدفتا قصف تحالف الجماعات المسلحة المسيطرة على مطار طرابلس الدولى، رغم التكذيب القاطع الذى صدر عن الرئيس السيسى والخارجية المصرية، وفى ظل هذا الطنين الكاذب وقعت الولاياتالمتحدة وفرنسا وإنجلترا بياناً مشتركاً يحذر من مغبة التدخل الخارجى فى الشأن الليبى الذى يمكن أن يتحول إلى صراع إقليمى دولى، ويتحدث عن عزم الولاياتالمتحدة على التخطيط لتدخل جديد فى ليبيا يستخدم قوات دولية تتبع الأممالمتحدة لمنع أى تدخل خارجى. وكان المطلوب تخويف مصر وإلزامها الامتناع عن أى عمل عسكرى يستهدف الدفاع عن أمنها الوطنى، والامتثال لما تفعله جماعات الإرهاب التى تطلق عملياتها الإرهابية على حدود مصر الغربية من داخل ليبيا. والمضحك فى الصورة أن يعلن الرئيس الأمريكى أوباما فى هذا التوقيت المتأخر أسفه الشديد للسهو الذى وقعت فيه الولاياتالمتحدة، عندما أهملت قضية استقرار ليبيا والحفاظ على أمنها بعد سقوط العقيد القذافى، مؤكداً رغبته المخلصة فى إصلاح هذا الخطأ! لماذا استيقظ أوباما فجأة بعد سهو طويل استمر عدة سنوات؟! وما الذى يريده على وجه التحديد من مصر، أن كان هدف مصر الوحيد الدفاع عن أمنها الوطنى ضد جماعات إرهابية تستثمر الفوضى التى تضرب أطنابها فى البلاد كى تواصل عدوانها على مصر؟! أكثر ما يخشاه الإنسان أن تتصور الولاياتالمتحدة أنها يمكن أن تجد فى المشكلة الليبية الراهنة عنصر ضغط جديداً يساعدها على تطويع الإرادة المصرية فى ظل الأزمة الراهنة التى تعتصر العلاقات المصرية الأمريكية، وقد لا يكون مستبعداً أن تتحول ليبيا إلى فخ يستهدف استنزاف القدرة العسكرية المصرية فى غير طائل، ليحدث لمصر ما حدث للعراق وسوريا إذا فكرت فى التدخل المباشر فى ليبيا لحماية أمنها الوطنى، لكن مصر أذكى كثيراً من أن تتورط فى عمل من هذا النوع يفسد العلاقات التاريخية بين الشعبين المصرى والليبى، ويوسع من نطاق العنف فى ليبيا ويهيئ لمنظمات الإرهاب فرصة النيل من الجنود المصريين، ويبرر للقوات الأجنبية فرض وجودها على الأرض الليبية، ويضع مصر فى قفص الاتهام بدعوى أنها تستهدف الاستيلاء على ثروات الليبيين وليس حماية أمنها الوطنى. لكن مهما تكن أبعاد المؤامرة فما من قوة فى العالم تستطيع أن تمنع مصر من أن تكون جاهزة فى كل لحظة للدفاع عن حدودها الغربية ضد أى محاولة تستهدف اختراق هذه الحدود وتهديد أمنها الوطنى. وما يزيد من قدرة مصر على كسب معركتها على الجبهة الغربية أن غالبية الشعب الليبى بما فى ذلك القبائل والجنود وقوى المجتمع المدنى تلفظ هذه الجماعات، وتسعى للتخلص منها لأنها لا تشكل أى أغلبية معتبرة.