من مصر إلى أربيل بكردستان العراق، لم يكن الطريق سهلاً ولا مفروشاً بالأمان، خاصة بعد أن وضعت بعض المنابر الإعلامية أحجار العثرة فيه، وصورت العراق، ذلك البلد الذى يجمع حضارات عريقة عمرها آلاف السنين، بأن طرقاته غارقة فى الدماء ودروبه محصنة بمتاريس لتنظيم «داعش». إلى هناك كانت الرحلة، تجولت «الوطن» فى محافظات كردستان بين أربيل ودهوك وزاخو، وشاهدت واقعاً مختلفاً عما تتناقله وسائل الإعلام، فلا أثر ل«داعش» فى هذه المحافظات ولا أزمة على الطرقات. صحيح أن مناطق الموصل وما يحيط بها محتلة من «داعش» لكن الوضع الأمنى العام جيد، والقوات الكردية منتشرة بشكل طبيعى. لكن الملاحظ أن الجميع متحفز وحذر لأى خطر، لدرجة توجيه نصائح بعدم الإفصاح عن مكان الوجود داخل تلك المناطق إلا لأهل الثقة، ويبدو أن هناك خلايا نائمة فى أربيل، حسب تعبير بعض أهلها، يخشون استيقاظها على حساب أمن الإقليم. «أربيل» مدينة هادئة، طابعها محافظ إلى درجة كبيرة وأهلها من الأكراد السنة. فى جوفها منطقة عنكاوا ذات الأغلبية المسيحية، وهناك مراكز النازحين التى حولت المدارس والقاعات والكنائس إلى أماكن إيواء، وطابع عنكاوا أكثر انفتاحاً، والجميع مسيّسون. مشاهدات متناقضة فى كل ساعة تدفع للتساؤل: كيف لبلد يحمل كل هذا المزيج من الحضارات أن يقع فى يد عصابة «داعش». النازحون والمسئولون يؤكدون أن الموصل لم تكن لتقع بين أيادى الدواعش إلا بمساعدة الأهالى أنفسهم. فأهالى القرى المتاخمة وبعض العشائر من العرب السنة أرشدوا عن بيوت المسيحيين والأيزيديين، وتحت دعوى التحرر من المالكى وحكومته ادعوا أنهم «ثوار» واتفقوا مع «داعش» وانضموا إليه، وكونوا تحالفاً للخلاص من الحكم الشيعى الظالم لهم، واهمين أن الخلاص على يد الدواعش، فباعوا العشرة والجيرة، وسلموهم إياهم مقابل وهم الخلاص من «المالكى»، فلا بقى المسيحيون والأيزيديون ولا رحلت «داعش». وكانت الخيانة مفتاح التمكين، حتى بين بعض القادة العسكريين الذى يمثل بعضهم للتحقيق الآن. فوق الوجوه يعلو الألم، لكن فى قوة على عكس نازحى سوريا، ولم نرَ دموع امرأة ولا لمعت أعين الرجال ضعفاً، وحينما سألنا عن سبب التماسك، جاءت الإجابة بأن «فى سوريا النزوح جديد عليهم أما نحن فخبراتنا فى الحروب صنعت قوتنا، النازحون من سنجار والموصل لا يريدون العودة إلى ديارهم، حتى لو رحلت داعش ولاقت الهزيمة، فقد فقدوا الثقة فى بلدهم وحكومتهم وجيرانهم». وتقول سيدة «من سنجار»: «أبلغتنى جارتى عبر الهاتف أن أحد الجيران المنضمين لداعش، بعد أن هجرونا، احتل منزلى هو وأسرته ويحيا فيه الآن. من كنا نأكل معهم ونحيا بينهم طردونا وأخذوا ممتلكاتنا.. فلمن نعود؟». داخل الكنائس افترش النازحون الأرض، سكنوا القاعات والحدائق، ووجوههم تبتسم فرحين بالنجاة من سبى نسائهم بينما تعتصر قلوبهم غربةً ولجوءاً، حول أحد القساوسة التفت مجموعة كبيرة، كل يمسك باستمارة فى حرص ولهفة، سألت عن السبب، إنها أوراق الهجرة، وطلبات للمغادرة الأخيرة من الوطن الذى قسمه التناحر منذ أعوام وتحرقه الآن المعارك الطائفية الطاحنة. «من نزوح إلى نزوح صار حالهم فلماذا يبقون؟».. هكذا تساءل بعضهم. تركتهم ورحلت إلى المخيمات فى دهوك وزاخو حيث اجتازت «داعش» بعض المناطق هناك ثم أرجعتها البشمركة الكردية. فى رحلة الذهاب من أربيل إلى دهوك -التى يُعد السفر إليها مخاطرة- وفى موقع مثلث الحدود السورية التركية العراقية، تنتشر مخيمات المنكوبين التى أقيمت للسوريين سلفاً فسكنها العراقيون على غير توقع، وعلى الطريق قال مرافق الرحلة ذو الخلفية الآشورية: «هنا باتجاه الموصل، إنهم خلف هذا الجبل يعيثون فساداً فى أراضينا»، وفى رحلة العودة من دهوك إلى أربيل تكرر الموقف وأشار الحارس على تلال جانبية قائلاً لنا: «هنا داعش دخلت ثم عادت وهناك على بعد كيلومترات معدودة احتلت ديارنا فى قرى برطلة وقرقوش وتل أسقف وبطنايا وبعشيقة وجهزانى، وهى كلها مناطق ذات أغلبية مطلقة مسيحية والبقية أيزيدية. وعلى بعد أقل من 50 كم سيطرت على الموصل خلف الجبل الذى أمامنا، والآن سيطروا على ثلث العراق تقريباً».