أكتب هذه السطور عن زعيم مصر الخالد وحبيبها.. أكتبها رغم اختلافى الحاد مع بعض سياساته وما أدت إليه من نتائج.. ولكنه يبقى جمال عبدالناصر رمز العزة والكرامة ولو كره «الإخوان» وكتابهم الذى يسعون الآن -مع حلول ذكراه- لتصفية ثأرهم القديم معه وهو فى قبره دون أن يعوا أنه قبل أن يهاجموا ناصر، عليهم أن يقارنوا بين ما قدمه ناصر والضباط الأحرار وثورة يوليو 1952 لمصر وما سيقدمونه هم وكيف سيخرجون من مأزقهم المتمثل فى وهم «النهضة» والذى أثبت أن مشروعهم ينتهى عند نقطة الوصول للحكم، أما مرحلة ممارسة الحكم فعنوانها الرئيسى حتى الآن هو «الارتباك» وأتمنى أن يثبتوا العكس؛ لأن المركب عندما يغرق سنغرق جميعاً ولن ينتقى اليم هذا الفصيل من ذاك. كان عبدالناصر زعيماً تجاوز حضوره حدود دولته، أحب مصر والمصريين بصدق فأحبوه بعنف وورثوا حبه لأبنائهم وأحفادهم، أدرك حقائق الأمن القومى لمصر وارتباطه بالعمق الأفريقى والحال العربى فجعل من القاهرة مركزاً للتحرر الوطنى واستقلال الشعوب وضخ الدماء فى نبض القومية العربية.. كان واضحاً فى مشروعه اتفقنا أو اختلفنا عليه ويؤمن به ويعمل على تحقيقه حتى يوم وفاته.. انحاز للفقراء وتمكن من خلق طبقة اجتماعية جديدة وهى «الطبقة الوسطى» التى تعانى الآن من حالة موت سريرى وأصبح بقاؤها ومصيرها الآن فى علم الغيب ومن المفارقة أن من يقيمون المحاكم العنترية لناصر فى مماته جميعهم ينتمون لهذه الطبقة وكان أولى بهم أن يفكروا ويسألوا أهلهم: كيف كان حالهم قبل ناصر وثورة يوليو وماذا لو لم يفعل ناصر ما فعله؟.. وحقيقة أستحى من الإجابة عن هذا السؤال؛ لأن الإجابة عليه ستنال الكثير من كبرياء وكرامة هؤلاء، فعائلات مصر الكبرى قبل الثورة معروفة وتعد على أصابع اليد الواحدة والسواد الأعظم من الشعب كان واقعهم مؤلماً ولا حاجة للتفصيل فى هذا الأمر ولكن فقط علينا أن نذكر. وليس معنى كلامى أن عبدالناصر لم يكن بلا أخطاء بل على العكس كان مثله مثل الشخصيات العظمى فى التاريخ، أخطاؤهم تعادل حجمهم ولكن حساب التاريخ له أصول وليس فيه اجتهاد وهو باختصار عبارة عن ورقتين: الأولى هى ماذا قدم؟ والثانية هى فى ماذا أخطأ؟ وهذا الحساب التاريخى يخضع له كافة حكام مصر بداية من محمد على وصولاً إلى الرئيس السابق حسنى مبارك وسيخضع له أيضاً الرئيس محمد مرسى يوماً ما. وإذا جاز لى بإيجاز تقييم زعيم بحجم عبدالناصر، فسأقول إنه بجرأته استطاع أن يحول يوليو 1952 من انقلاب عسكرى إلى ثورة حقيقية رسمت واقعاً جديداً لمصر بداية من جلاء المحتل البريطانى ثم تأميم قناة السويس والصمود فى حرب بورسعيد وحسمها سياسياً وبناء جيش قوى لمصر بالمعنى الحديث وتحقيق حلم السد العالى أساس أى نهضة سابقة ولاحقة فى مصر. وأخطأ عندما أخذه غرور القوة والزعامة وأنهك جيشه فى معارك وحروب لا عائد لها مثل حرب اليمن وما تبع ذلك من خسائر مدمرة للخزانة المصرية، إلى أن جاءت هزيمة يونيو 1967 فكانت اللطمة العنيفة ولكنه تدارك ما حدث وسعى لتصحيح الخطأ وأعاد ترتيب أوراق جيشه ودخل فى معارك مع العدو الإسرائيلى تسجل بطولات لجيشنا الباسل فيما يعرف بحرب الاستنزاف وتمكن من بناء حائط الصواريخ تحت ضرب النار والقصف الإسرائيلى المستمر ولولا حائط الصواريخ الذى اختلط فيه الأسمنت بدماء شهدائنا لم نكن لنشهد يوم العبور العظيم. هذا هو تاريخنا، فلا تشوهوه.. وبدلاً من تصفية حسابات الماضى.. انظروا إلى المستقبل وتفوقوا على ناصر وغيره بتحقيق الإنجاز، فمصر لم تعد تمتلك رفاهية الفشل.