قرأت المقال الماتع للأستاذ محمد مهنا، مستشار شيخ الأزهر، الذى وضع عنواناً صاخباً له هو «مفتريات الأستاذ الخرباوى.. تطاول على الأزهر وشيخه»!!! وعلامات التعجب السالفة هى من عندى وليست من عنوان الشيخ الموقر مهنا. وقد أصابنى الفزع من الذى كتبه الشيخ مهنا، فهو مع وقاره ونزعته الصوفية المحببة الشيخ مهنا لا الذى كتبه، إلا أنه ظلم نفسه حينما اتهمنى بأننى أردد مفتريات المستشرقين وأننى أردت أن أثير البلبلة والفتنة بين المسلمين! وإثارة الفتنة فى مؤسسات الدين! استناداً إلى بعض الشواذ الواردة فى كتب التراث مما تم بحثه وتحقيقه وتصحيحه من قبَل علماء الأمة على مدار تاريخها الطويل. أما لماذا ظلم الشيخ مهنا نفسه فلأنه ذكر أشياء لم تحدث، فلا أنا استندت لبعض الشواذ ولا يحزنون، بل إننى فى مقال سابق لم أكتب إلا عتاباً لشيخ الأزهر لأنه قام بتشكيل لجنة لدراسة ما قيل عن عذاب القبر واتخاذ الإجراءات القانونية ضد الكاتب الكبير إبراهيم عيسى! فى الوقت الذى ترك فيه الإخوان يسيطرون على الأزهر ومجلته، وأولى به أن يقف ضد تمددهم وتمدد التيار الوهابى فى الأزهر، وعاتبته على أنه استقبل وفود السلفيين وهم أصلاً من أسباب التطرف الدينى، وأنه لمجرد أن هاجم الحوينى المتطرف شيخ الأزهر لأنه لم يتخذ إجراءً ضد إبراهيم عيسى أسرع الشيخ الجليل بتشكيل اللجان! ثم قلت: أين مشروع الأزهر الذى يجب أن يواجه به هؤلاء؟ أين إذن مفتريات المستشرقين، وأين البلبلة والفتنة؟! ومع ذلك فإننى أضرب الصفح عما قاله الشيخ فى حقى، فإلى ديّان يوم الدين نمضى وعند الله تجتمع الخصوم، والله يعلم أننى دافعت عن شيخ الأزهر الجليل فى أكثر من موضع. ولكن الذى أفزعنى هو أن الشيخ مهنا اعتبر أن انتقاد شيخ الأزهر أو مناقشة التراث ببشريته يُعتبر نقداً وهدماً للدين! أفزعنى أن يقول مستشار شيخ الأزهر عنى: «أصابته شهوته بالوُلوغ فى مذاهب السادة والأكابر من علماء الأمة، يتلمس نقيصة هنا وهفوة هناك، وهو يعلم أنه عندما ينتقصهم إنما ينتقص تراثهم، وأنه بانتقاصه هذا التراث إنما ينتقص الإسلام نفسه»! ياللهول! انتقاد عالم يُعتبر انتقاداً للتراث وانتقاد التراث إنما هو انتقاد للإسلام!! الذى أعرفه يا شيخنا أن هناك فارقاً بين الإسلام وبين تراث المسلمين، الإسلام مقدس بقرآنه وسنّته الصحيحة لا شك فى ذلك، ولكن التراث هو ذلك الذى وصلت إليه عقول بعض المسلمين الأوائل فى فهمها للقرآن والسنة النبوية سواء كانت عملية أو قولية، فإذا انحرف فهم بعض الأوائل لهذه النصوص، أو فهموها وفق ثقافاتهم وخبراتهم وزمنهم وواقعهم الذى يعيشون فيه، فليس معنى هذا أن باقى المسلمين على مدار العصور مجبرون على أن ينتظموا فى نفس هذا الفهم، وإلا لكان معنى هذا أن الله لم يخلق إلا عقلاً واحداً ثم استنسخ منه نسخاً بقدر عدد البشر إلى أن تقوم الساعة! ولذلك فإن التراث قد يلقى تقديراً من المسلمين ومن غير المسلمين بحسب أنه جهد بشرى إبداعى، ولكنه لا ينبغى أبداً أن يلقى تقديساً أو تنزيهاً، هو مجرد صورة من صور ثقافات الأزمنة التى أنتجت هذا التراث، به نستطيع أن نعرف طريقة تفكير المسلمين القدامى وطرق استدلالاتهم، ومدى تأثير ثقافات الحضارات الأخرى فيهم، وكيف نظروا بثقافاتهم هذه للقرآن والنبى صلى الله عليه وسلم، وهل أثرت فيهم ثقافة العرب وهم يكتبون سيرة النبى صلى الله عليه وسلم. هذا تراث ينبغى أن نستخدمه كمفتاح من مفاتيح فهم ما حدث من قبل، لا أن يكون منهجاً نسير عليه فى حاضرنا ومستقبلنا، نستطيع به أن نعرف ما إذا كان الخلاف الذى ظهرت مقدماته بين الصحابة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم هو خلاف حول أن يتولى شأن الأمة الأصلح لها أم الأقرب لرسول الله، وهل كانت سقيفة بنى ساعدة ترجمة لخلاف كان مستبطناً فى الضمائر حول أى مدن الجزيرة العربية أقوى وأشد ساعداً وأحق بالفخر، يثرب المدينةالمنورة، أم مكة أم القرى؟ حيث كانت عدة مدن تتنازع القوة والسيادة فى الجزيرة العربية هى مكةوالمدينة والطائف. وقد نفهم من التراث أسباب الخلاف المؤلم الذى شجر بين صحابة رسول الله حول الحكم عندما انقسموا بين سيدنا على وسيدنا معاوية، وكيف أن صحابيين بقدرهما يقتتلان بجيوشهما، فنفهم من هذا أنهم بشر يرد عليهم ما يرد على باقى البشر! وقد يذهب بعضنا وهو يدرس هذا التراث إلى أن هذا الخلاف كان دينياً، أو دينياً من ناحية ودنيوياً من ناحية أخرى، وقد يذهب بعض آخر إلى أن هذا الخلاف كان فى حقيقته صراعاً على السلطة بين بنى أمية الذين كانوا ملوكاً على قريش وأهم أفخاذها، وبين بنى هاشم جد رسول الله صلى الله عليه وسلم وجد سيدنا على بن أبى طالب. ومن بنى أمية قامت الدولة الأموية، ومن بنى هاشم قامت الدولة العباسية. وإذ نقرأ هذا التراث رغم غرابة بعضه وشذوذه فإننا لا يمكن أن نحمل الدين عليه ونقول للناس: إن الإسلام يسمح بكذا أو كذا، لأن ما ورد فيه هو ترجمة لأفكار ناس، وسلوك ناس، وأخلاق ناس، وتاريخ ناس، فالدين لا يُحمل على الناس، ولكن الناس يُحملون على الدين. ومن ناحية أخرى فإننا لا يمكن أن نُضيف طريقة تفكير المسلمين الأوائل إلى العلم، ولكن نضيفها إلى تاريخ العلم، فلا شك أن ما أبدعوه وقتها كان علماً، ولكن الآن بمقاييسنا وبما وصلنا إليه من حداثة وعلوم لا يمكن أن نعتبره علماً، فمن قاموا بتفسير القرآن فسروه وفق علوم عصرهم أو الشائع بينهم أو الذى وصل لهم من أصحاب الديانات السابقة، ولكننا الآن إذا قمنا بتفسير القرآن فلا يمكن أن نقف عند من قال إن الأرض ثابتة وإنها مركز الكون وإنها مسطحة، وإن طول أفراد الأمم الموغلة فى القدم كان يتجاوز الخمسة أمتار! أو إن إبليس نكح نفسه فأنجب أمته! وكذلك علوم الحديث المتعلقة بالسند أو المتن هى مجرد تاريخ للعلم قد ننشدها إعجاباً بها، ولكننا لا يمكن أبداً أن نعوِّل عليها حالياً، بل يجب أن نطورها أو نغيرها، فتلك العلوم ليست منزهة أو مقدسة ولكنها كانت طريقة بشرية ابتكرها المسلمون بعد أكثر من مائة عام من وفاة الرسول لتوثيق الأحاديث التى رُويت عنه، ولكننا حبسنا أنفسنا عند ما ابتدعه الأوائل فلم نبدع لأنفسنا علماً نصحح به الكثير من الأغاليط التى نُسبت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، بل إننا قدسناها حتى أصبح من يناقشها فى نظر المقلدين كافراً، مع أن بعض هذه الأحاديث لا تليق برسول الله ولا يمكن أن يقتنع بصحتها إلا ضعفاء العقول.