بدأ الفكر «الداعشى» بإشكالية استعادة الخلافة وانتهى بها. فالمشهد الأول لمسيرته يسجّل أن الشيخ حسن البنا -رحمه الله- وقف فى مدينة الإسماعيلية رافعاً كتاب الله فى يده وهو يصرخ: «الطريق ها هنا.. الطريق ها هنا». كان البنا يقصد أن إصلاح الحال فى بلاد المسلمين لن يتأتى إلا بإحياء فكرة الخلافة والعودة إلى العصر الأكثر نصاعة فى تاريخ المسلمين -كما تتحدث عنه كتب التراث الإسلامى- والمقصود به عصر الخفاء الراشدين رضى الله عنهم. أما المشهد الأخير فيظهر فيه «أبوبكر البغدادى» وهو يعتلى المنبر ليعلن أنه تولى أمر المسلمين وأصبح خليفة عليهم وطالباً منهم أن يعينوه إذا أصاب ويقوّموه إذا أخطأ، فى استرجاع واضح لمقدمة الخطبة الأولى لمحمد مرسى حين تولى رئاسة مصر والتى تُعد استدعاء لمقدمة خطبة أبى بكر الصديق الخليفة الأول فى تاريخ المسلمين. والمتأمل لفكرة «الداعشية» يجد أنها تتحلق حول توجه وشعار. أما التوجه فيتحدد فى النظر إلى «الخلافة» كأساس لنظام الحكم فى الإسلام، وأما الشعار فيتجلى فى عبارة «الإسلام هو الحل»، حيث ينظر إلى مسألة العودة إلى الدين كخلاص وسبيل للخروج من دائرة التخلف والتراجع والدخول فى دائرة التحضر والتقدم. وقد يكون من غير الدقيق أن نؤرخ لظهور فكرة «الإسلام السياسى» التى يتحلق حولها «الدواعش» بظهور جماعة الإخوان عام 1928. فظهور هذه الفكرة بمرتكزاتها يعود إلى ما هو أبعد من هذا التاريخ، ويصح أن نقول إنها ظهرت مع مولد الاحتلال الإنجليزى لمصر عام 1882. ففى اللحظة التى أعلن فيها الخليفة العثمانى عصيان «أحمد عرابى» قفزت فكرة «الخلافة» من جديد فى نفوس من انفضوا من حول الضابط الذى وقف ليدفع عن مصر خطر الاحتلال الإنجليزى. ولو أنك مددت الخط على استقامته وحاولت أن تستعرض الأطروحة الأساسية التى استندت إليها الرموز الوطنية فى المطالبة بجلاء الإنجليز عن مصر فستجد أنها تمثلت فى الاحتجاج ب«تبعية مصر لدولة الخلافة». استند مصطفى كامل فى دفاعه عن استقلال مصر إلى هذه الأطروحة، وكان واحداً من أهم دعاة «الجامعة الإسلامية» وتوحيد الدول الإسلامية تحت راية الخلافة، ولم ينفصل هذا الطرح عن رؤية حكام الأسرة العلوية (أبناء وأحفاد محمد على) لكيفية التخلص من الاحتلال الإنجليزى، بل كان نتاجاً لها. ويذكر «أحمد لطفى السيد» فى مذكراته أن «الخديو عباس حلمى هو صاحب فكرة إنشاء الحزب الوطنى الذى أسسه مصطفى كامل تحت رياسة الخديو»، ويضيف أنه بعد أن التقى الخديو: «اجتمعت مع مصطفى كامل وبعض زملائنا فى منزل محمد فريد وسعيد الشيمى ياور الخديو ومحمد عثمان (والد أمين عثمان)». ويذكر محمد حسين هيكل فى كتابه «مذكرات فى السياسة المصرية» أنه: «عندما وقع حادث طابا وتنازعت عليها تركيا وإنجلترا.. وقالت تركيا إن طابا فى أرضها وقال الإنجليز إنها فى أرض مصر، أما جريدتا المؤيد واللواء فانضمتا إلى تركيا وقررتا أن مصر لا تمانع فى أن تكون طابا تركية»! وهو مشهد يذكرنا بموقف مرشد جماعة الإخوان «محمد بديع» الذى ترخّص فى الحديث عن منح سكان غزة جزءاً من أرض سيناء، كما ترخص مصطفى كامل فى منح «طابا» لتركيا، انطلاقاً من أنك لن تمنحها لغريب! ففكرة الدولة وحدود الدولة وحرمة أراضيها غير حاضرة فى أذهان من يرى أن الخلافة أصل من أصول الحكم فى الإسلام، أصل يمكن فى سبيله التسامح حتى ولو كان فى الأرض.