ليتها تقوى على الصراخ، لوهلة بدا لمن اقترب منها لإنقاذها، أنها ستلطم وجهها أو تصيح فيمن حولها، كيف تصف ضراوة المشهد؟ كيف تنقل لحظات تجمدت فيها الدماء الجارية في عروقها؟ حكاية صعبة لا تُحكى متشعّبة وثقيلة، هنا قطار جامح وعجلات حديدية تدهس كل شيء في طريقها، ولا تعرف الرحمة، بين العجلات الحادة والقضبان الممتدة، تحتبس أنفاسها، اجتمعت أكوام الحديد من حولها، وتطايرت الأشلاء من أمامها، وبقيت هي ساكنة لا حول لها ولا قوة، لم يظهر من جسدها سوى عيناها الخائفتين، وبهت بريقهما في ظلام المأساة. صورة التقطتها كاميرا الهاتف المحمول لأحد المارة، حينما انشغل بالبحث عن العالقين داخل عربات قطاري طهطا بمحافظة سوهاج، بعد الحادث الذي وقع ظهر اليوم، لإحدى الناجيات، بينما غطى جسدها أكوام الحديد الذي انطبق على صدرها، لم يظهر منها سوى عيناها الخائفتين، تترقب مصيرها المجهول بحذر،«فين عويلاتي يا ولدي عايزة أطمن عليهم»، هكذا نطقت الأعين بما شاءت أن تتفوه الأم، بينما انخرس لسانها، وباتت غير قادرة على التحدث. هرولة رجال الحماية المدنية من حولها لم تحرك لها ساكنا، ظلت كما هي، جسدها يترجف ولا تقوى على فعل شىء، إلا نظرة تناجي بها من يراها أن ينقذها مما هي فيه، بعد أن أضحت محور حطام عربة القطار، قبل أن يأخذ أحد الشباب الناجيين بيدها، وفي عقله سؤال ملح، «إزاي الست دي استقرت في المكان ده؟». لحظات من الرعب يرويها هشام محمود، الشاب المجاور للسيدة العجوز وشاهد العيان على الواقعة، لخصتها نظرات السيدة العجوز، وشعرها المتناثر على جبينها عقب تطاير حجابها، إثر التراب الكثيف الذي ضرب العربة بعد سقوط القطار، لتجلس على الأرض ومن فوقها تتمايل صفائح الحديد المكسورة من العربة. «خد بإيدي يا ولدي».. كلمات قالتها السيدة العجوز لشاب قريب منها، لم تمر مرور الكرام على «هشام»، بل حدق بسببها الشاب العشريني في السيدة التي كانت تبحث عن يد تزيل عن كتفها الصاج والحديد، وتأخذ بيدها من المكان التي سقطت فيه في لحظات، دون أن تدري ما حدث لها، حتى مد أحدهم يده لتقوم بصعوبة بالغة، وسط صرخات المحيطين بها، وتساؤلات عقلها متى بدأ كل هذا الصخب وكيف سينتهي؟. رحلة السيدة المسنة كانت برفقة أقاربها، على حد قول شاهد العيان ل«الوطن»، وهم أول من سألت عنهم عقب إنقاذها من مكانها الضيق، يصطحب سؤالها دموع تتساقط على خدها، وعينيها تجوب المكان فوقه وتحته، علها تلمحة أحدهم بين حطام القطار، ولسانها قانع راضي بما قسمه الله، وتقول «لا حول ولا قوة إلا بالله». عقب نزولها من عربة القطار تمنت السيدة أن تنال رشفة ماء، الصدمة «نشفت ريقها» والمفجأة جعلتها تفقد التركيز، كل ما تنطق به هو أنّات الألم وسؤالها عن أبنائها، حتى خانتها قدماها ولم تقو على الوقوف فخرت جالسة تنتظر ظهور أقاربها وتترقب اللحظة التي يأتون لانتشالها من هذا الكابوس.