إن إخلاء المشرق العربى من المسيحيين والأقليات الأخرى ما هو إلا خطوة فى مخطط تقسيم المنطقة الذى يستهدف الجميع ومن يصمت اليوم، فسوف يجد السيف على رقبته غداً. إن التركيز على فضح جرائم القتل والتشريد التى يتعرض لها شعبنا الفلسطينى فى غزة من قبل الإعلام العربى والعالمى هو أمرٌ طبيعى، نظراً لعمق القضية الفلسطينية قومياً ودينياً وأهميتها فى الشارع العربى والإسلامى من جهة، ومن جهة أخرى لحجم المأساة الإنسانية التى تحدث على أراضيها، بيد أن تزامن حدوثها بعد أسابيع من سيطرة ما يسمى ب«الدولة الإسلامية» وإعلانها «للخلافة» وبدء تنفيذ مرحلة حاسمة من جريمة تقسيم العراق خلال الأسابيع القليلة التى سبقت العدوان الإسرائيلى على غزة، يؤكد أن هناك تعمداً لتشتيت انتباه العرب والعالم كله عن المأساة الإنسانية التى تحدث فى العراق، ففى الوقت الذى تقصف مدينة غزة بالقنابل والعالم كله مشغولٌ بذلك، تتغير خارطة العراق الاجتماعية والديمغرافية، ويتصاعد التهجير القسرى الُمنظم للعراقيين، ويُفرغ البلد من مكوناته الأساسية، ولا يخفى على أحد أن تهجير السكان الأصليين لبلاد الرافدين، وشطب ستة آلاف سنة من تاريخ الحضارة الإنسانية، قد يسهل محو ذاكرة هذه الحضارة وتقسيمها، فقضية التهجير فى العراق بشكل عام، وتهجير المسيحيين على نحو خاص، هو من أخطر الأدوات التى يستخدمها الغرب ويحرك جميع عملائه فى المنطقة لتنفيذها للوصول إلى الهدف الأكبر، وهو تقسيم العراق والمنطقة ككل، وبالتالى فإن ما يحدث فى العراق لا يقل خطراً عما يحدث لأهلنا فى فلسطين، وإن كانت عيوننا تذرف دمعاً على أهلنا فى غزة، فإن قلوبنا ما زالت تنزف دماً على ما يجرى فى العراق، ويجب علينا الاهتمام به، وخاصة ما يحدث لإخواننا المسيحيين بقدر اهتمامنا بما يحدث فى فلسطين. - إن وجود المسيحيين فى العراق ليس طارئاً، هم كانوا هناك منذ القرن الأول الميلادى، حيث كانت الغالبية فى العراق تعتنق المسيحية، وأكثر من 120 كنيسة بقيت شاهدة حتى اليوم على جذورهم، واحتضنت أكبر كنيسة فى الشرق الأوسط هى كنيسة الطاهرى الكبرى فى مدينة بغديدا شرق الموصل، وفى الحقيقة لا ينبغى أبداً أن ننسى أن المسيحية ولدت فى الشرق الأوسط، وعلى الرغم من ذلك، فالمسيحيون اليوم فى العراق بلا وطن يحميهم ويحترمهم، وجميعهم يتمنون الخروج منه رغم أنهم سكان العراق الأصليون وتعود أصولهم إلى بابل وآشور، وذلك لما يتعرضون له من تنكيل واضطهاد، فقد تضاءلت أعدادهم بنسبة كبيرة فى السنوات العشر الأخيرة منذ الغزو الأمريكى، ففى العام 1987 كان عدد المسيحيين فى العراق مليوناً وخمسمائة ألف نسمة، وفى العام 2013 تقلص العدد إلى أربعمائة ألف وخمسين نسمة من أصل 28 مليون نسمة عدد سكان العراق، ثم قام برابرة العصر الحديث، تنظيم داعش الإرهابى، بإعلان حرب إبادة طائفية ضدهم، حيث قاموا بطرد نحو ثلاثين ألف مواطن عراقى مسيحى على الأقل تحت تهديد السلاح من بيوتهم وأعمالهم وذكرياتهم وتاريخهم وللمرة الأولى منذ ألف وخمسمائة عام تخلو الموصل من المسيحيين ويتم: ■ الاستيلاء على ممتلكاتهم ومنازلهم وأعمالهم وكنائسهم وحرق عدد كبير منها وتدمير قبور المسيحيين، وعدم السماح لهم بالرحيل إلا بملابسهم. ■ عدم التعامل معهم سواء بالبيع أو الشراء أو بأى معاملات، ومنع البطاقة التموينية عن العوائل المسيحية. ■ قتل كل المسيحيين الذين تجرأوا على الذهاب إلى أعمالهم أو مخالفة تعليمات أوباش داعش. ■ اغتصاب عدد كبير من السيدات المسيحيات وانتحار عدد منهن، واختطاف 18 طالبة جامعية مسيحية أصبحن يسمين «سبايا». وهذا المشهد يزداد فضائحية مع عمق وفداحة الصمت العربى والعالمى الذى يمثل جريمة ترتقى إلى حد التواطؤ، هناك مسئولية أمريكية مباشرة عن مأساة المسيحيين العراقيين، لأن الغزو الأمريكى ساهم فى إطلاق وحوش الطائفية والمذهبية والعنف الذى استهدف أساقفة المسيحيين وكنائسهم حتى عندما كان لأمريكا عشرات الآلاف من الجنود فى العراق، وعلى الرغم من ذلك، فإنه لا يوجد موقف أمريكى يذكر تجاه هذه الجريمة. وزارة الخارجية الأمريكية أصدرت بعض البيانات الإنشائية، وأوباما لم ينطق بكلمة، ولا يختلف الموقف الأوروبى عن الموقف الأمريكى، فهو أيضاً سلبى، والأسوأ من ذلك هو الصمت العربى، فأين جامعة الدول العربية؟ وأين منظمة المؤتمر الإسلامى؟ وأين وزراء الخارجية العرب؟ وأين الأزهر؟ وأين العلماء والمثقفون والسياسيون؟ أم أن الجميع يهتم فقط بإدانة الغرب وإسرائيل ولا صوت لهم عندما يذبح بعض المسلمين مسلمين آخرين، أو يمارسون العنف ضد المسيحيين من باكستان إلى العراق وحتى فى مصر، إن إخلاء المشرق العربى من المسيحيين والأقليات الأخرى ما هو إلى خطوة فى مخطط تقسيم المنطقة الذى يستهدف الجميع ومن يصمت اليوم سوف يجد السيف على رقابته غداً. وأقول لحكومتنا إن يوم تهجير المسيحيين من الموصل هو يوم حزين فى تاريخ الحضارة الإنسانية، ولكنه كارثى فى تاريخ الإسلام الذى ترتكب باسمه هذه الجريمة مكتملة الأركان، ولا يصح أن تصمت مصر أمام ذلك. نعم إن هناك مخاطر كثيرة تحيط ببلدنا ولكن مسئولية مصر الإنسانية والعربية تحتم عليها التحرك لمساندة مسيحيى العراق.