في مشهد عنوانه الأبرز هو "التسامح الديني تاج على رأس مصر"، يرفع أذان العصر بمسجد عمرو بن العاص وقت خروج مجموعة من السياح باختلاف جنسياتهم وديانتهم من الكنيسة المعلقة والمعبد اليهودي، تكسو وجوهم ابتسامة صافية، ويسيرون بانتظام شديد وقد امتلأت نفوسهم بحالة من الصفاء الروحاني، كل هؤلاء من مسيحيين ومسلمين ويهود، اجتمعوا في لحظة عابرة بمجمع الأديان في مصر القديمة في مشهد تجلَّت فيه ملامح التسامح الإنساني. معبد "بن عزرا اليهودي" أو "معبد الجنيزا" كما يطلق عليه الباحثون واليهود المحدثون، يعد أهم المعالم الأثرية في مجمع الأديان؛ فالمعبد في الأساس كان كنيسة تسمى ب"كنيسة الشماعين"، وباعتها الكنيسة الأرثوذكسية للطائفة اليهودية عندما مرَّت بضائقة مالية نتيجة لزيادة الضرائب التي فرضت عليها وقتها، وسمي المعبد باسم "عزرا" نسبة إلى أحد أجلاء أحبار اليهود، ويسمى أحيانًا ب"معبد الفلسطينيين" أو "معبد الشوام". وعلى بعد أمتار من المعبد اليهودي يجلس رجل ستيني على مقعد خشبي ويصلِّي العصر، وتغمره حالة من الصفاء الروحاني، ينهى صلاته وينظر إلى من يستقبله بابتسامة قائلاً "اتفضل عندي مشغولات يدوية هتعجبك"، عم "سيد" الذي مكث في هذا المكان قرابة ال40 عامًا يحكي لنا ذكرياته مع صديقه اليهودي الذي كان يعمل معه لسنوات طويلة، كان تربطهم علاقة وطيدة؛ فعقب صلاة العصر يذهبان معًا للمنزل ويتناولان وجبة الإفطار في رمضان سويًا وسط أبنائهم الخمسة وزوجته. عم "سيد" ظلَّ لمدة زادت عن ال40 عامًا يقدِّم مشغولاته اليدوية التي تجمع بين الفرعوني والإسلامي والقبطي واليهودي، يرصد أزهى عصور السياحة اليهودية في مصر التي شهدت إقبالاً في حقبة السادات، خاصة في مولد أبوحصيرة الذي يقام في دمنهور ويتوافد اليهود لمصر للاحتفال به. وفي الجانب الآخر من المشهد، تجد الكنيسة المعلَّقة بالقرب من جامع عمرو بن العاص، ومعبد بن عزرا اليهودي، وكنيسة القديس مينا بجوار حصن بابليون، سميت الكنيسة بالمعلقة لأنها بنيت على برجين من الأبراج القديمة للحصن الروماني (حصن بابليون)، ذلك الذي كان قد بناه الإمبراطور تراجان في القرن الثاني الميلادي، وتعتبر المعلقة هي أقدم الكنائس التي لا تزال باقية في مصر. كيرليس شابًا مسيحيًا من مواليد منطقة مجمع الأديان تربطه ذكريات بأصدقائه المسلمين في رمضان الذين تربى وسطهم، حيث الزينة التي يجمعون أموالها من أبناء الحي وفانوس رمضان الذين اعتادوا شراءه من منطقة العتبة، والإفطار الجماعي في جو من التسامح والمحبة في الممر المؤدي إلى الكنسية. لقمة العيش والظروف الاقتصادية الطاحنة أطفأت بهجة رمضان لدى كيرليس وأصدقائه، فلم يعد هناك زمن لكي يلتقوا ويمارسوا عاداتهم الرمضانية القديمة؛ فكيرليس الذي دفعته ظروفه الأسرية لترك الدراسة في المرحلة الثانوية لم تعد يوميته التي لاتتجاوز ال27 جنيهًا كافية لكي يفكر في أي شيء غير ما يملأ معدته ومعدة أسرته المتوسطة الحال. وأنت تتجول في مدخل المجمع ستدخل ممرًا تزينه مجموعة من الصور التاريخية والكتب، وستجد في نهايته بزارًا سياحيًا مملوء بكل شيء إلا السياح، حيث يجلس صاحب البزار عادل إسكندر وتبدو على ملامحه علامات الأسى مما شهده في هذا المكان طيلة 64 عامًا عاشها في المجمع ولم يفارق أركانه. يحكي عادل إسكندر عن بداية الحراك السياحي بمجمع الأديان في 1973 فظلَّت المنطقة عامرة بالسياح إلا في بعض الفترات التي شهدت توتر طائفي تجاه الأقباط في مصر لكنها نضبت تمامًا من السياح في السنوات الثلاثة الأخيرة. ويحكي عادل عن جيرانه وأصدقائه الأقباط الذين هاجروا مصر في السنوات الأخيرة عقب وصول الإخوان للحكم، خشية الاضطهاد وخوفًا من المستقبل المظلم، هؤلاء جميعًا ندموا الآن ويتمنون العودة إلى مصر وسط حالة تغمرنا جميع بأن المستقبل سيكون أفضل. وفي نهاية جولتك في المجمع، ستجد بالقرب منه جامع بن العاص الذي بناه المسلمون عقب فتح مصر في عاصمتها الجديدة "الفسطاط" فقد ظلَّ شاهدًا على تاريخ الإسلام في مصر منذ ذلك التاريخ، الجامع الذي أنشئ على مساحة تتجاوز ال50 ذراعًا وله 6 أبواب، كان المسجد في فترة من فترات الحكم الإسلامي بيتًا لأموال المسلمين.