سؤال يبدو أنه بسيط وبديهى، وأن إجابته محددة ومحسومة وسهلة، لكن الحقيقة هو أصعب سؤال فى موضوعه، وفيه كل أحكام الصوم، وله إجابات كثيرة متعددة وليست واحدة، قد يكون بينها وجه تقارب وشبه لكن أوجه الخلاف بينها كبير. ولأن منهجنا الأمانة العلمية والصدق فى نقل كلام الفقهاء كما تعلمنا، ولسنا أوصياء على أحد بحيث ننتقى ما يعجبنا ونستر ما لا يعجبنا، ونكذب على الناس ونقول هذا هو الدين فى المطلق، وكأن الأحكام الفقهية التى لا تعجبنا الآن ليست من الدين قطعاً، إننا نستحلف هؤلاء الأوصياء ماذا تصنعون غداً إذا احتجتم إلى الحكم الفقهى الذى لم ترضوا عنه اليوم أو فهمتم دليله واقتنعتم به بعد حين؛ هل ستفترون على الدين وتزعمون أنه قد تغير، أم ستعترفون بظلمكم للقول الفقهى المخالف؟ لذلك كان هدفنا فى هذه الأنابيش الفقهية أن نقدم للناس حقوقهم الشرعية فى التعددية الفقهية؛ حتى لا يسيطر عليهم أحد باسم الدين. وسنضرب مثالاً مهماً وعملياً فى حياة الناس؛ ليعلموا فائدة التعددية الفقهية وفضلها. تعلمون أن المسافر والمريض لا يجب عليهم الصيام كما قال تعالى: {وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (البقرة: 185)، فما رأى الفقهاء فى شابين تزوجا فى رمضان ويخشيان الوقوع فى محظورات الصيام؛ هل يجوز لهم الانتفاع برخصة المسافر؟ لقد اختلف الفقهاء فى ذلك على قولين؛ القول الأول: ذهب إليه الجمهور، وهو أن حقهم السفر؛ لأن دخول رمضان ليس مانعاً من موانع السفر، بل بالعكس ثبت فى البخارى ومسلم عن ابن عباس أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- سافر فى رمضان من المدينة لمكة وأفطر. القول الثانى، قال به بعض الصحابة مثل على وابن عباس، وبعض التابعين منهم عبيدة السلمانى (ت 72ه، وقيل 73ه)، أسلم قبل وفاة النبى -صلى الله عليه وسلم- بسنتين ولكنه لم ير النبى -صلى الله عليه وسلم- لأنه من أهل الكوفة، وكان من أصحاب ابن مسعود، وأيضاً سويد بن غفلة، وهو أيضاً كوفى أسلم فى حياة النبى -صلى الله عليه وسلم- ولم يره، وعندما سافر إلى المدينة ليلقى النبى -صلى الله عليه وسلم- وصلها فى يوم دفنه- توفى سنة 82ه عن مائة وعشرين سنة، وأيضاً أبومخلد عطاء بن أبى مسلم (ت 192ه) - قالوا: ليس من حق مَنْ وجب عليه الصوم فى رمضان أن يسافر لأنه يحتال للفطر ويعصى الله فى قوله تعالى: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} (البقرة: 185). أكثر الناس وكل الفتاوى المعلنة تعمل بقول هؤلاء التابعين وتقول: لا يجوز لمن وجب عليه الصوم فى رمضان أن يسافر ليترخص بالفطر. هنا أصبح رأى الجمهور فاسداً وليس من الدين ومن يفتى به يُتهم بإضاعة الدين عند هؤلاء الأوصياء، ونحن نسألهم: إذا مرت بكم الأيام وسافرتم وحدكم وتركتم زوجاتكم شهراً أو شهرين ورجعتم إليهن فى شهر رمضان، وقالت إحداهن لزوجها هيا نسافر يومين فى سياحة داخلية - هل سيرفض مع توقانه واشتياقه للحلال معها، على قول بعض التابعين، أم سيوافق على مذهب الجمهور؟ ولو وافق هل يكون ذلك تغييراً لدينه أو خيانةً له، أم أن الرأى الذى كان يراه فاسداً وليس من الدين أصبح رأياً صحيحاً ومن أصول الدين؟! إن هذا المثال يوصلك إلى رسالة وجوب احترام الآراء الفقهية كلها الصادرة من أهلها دون الحكم على نوايا أصحابها. صحيح من حقك أن تأخذ منها ما يرضى قلبك ويطمئنه وتترك الباقى الذى لا ترتاح إليه، ولكن هذا الحق لا يعنى اتهام القول المخالف بالبطلان المطلق أو أنه يسعى إلى الفساد، فقد يأتى عليك اليوم الذى تحتاجه لنفسك أو لأحد من أولادك أو أحفادك. أعود إلى سؤالى: ماذا يعنى الصوم؟ إن لفظ الصوم لفظ عربى، والألفاظ العربية أسبق من نزول الإسلام الخاتم، يعنى أن سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- ابتُعث والناس تتكلم بلغة عربية، ومن ضمن كلامهم لفظ الصوم والصيام، فكان استعمالهم له بمعنى الإمساك أو الامتناع؛ تقول: صمت عن الكلام، يعنى: سكت، وصام العصفور: أى سكت عن التغريد. وكان المتدينون من العرب يستعملون لفظ الصوم على معنى الصوم الشرعى المعروف فى ملة إبراهيم، وعندما بُعث الرسول -صلى الله عليه وسلم- بدين الإسلام، كان يصوم قبل الهجرة ثلاثة أيام فى كل شهر على ملة إبراهيم، إلى أن شُرع صيام رمضان بعد الهجرة بسنة ونصف، وكان على سبيل التخيير بين الصيام والفدية بإطعام مسكين عن كل يوم، ثم صار فريضة محكمة إلا لأصحاب الأعذار. ومع أن صوم شهر رمضان صار فريضة محكمة على المسلمين فى الجملة إلا أنه يستوعب كل المتغيرات الإنسانية بتعدد أحكامه وتفريعاته، ولتوضيح هذه الحقيقة الفقهية فإننا سنتناولها من خلال شرح ما وضعه الفقهاء من تعريف مجمل للصوم، وهو أنه: «إمساك عن المفطرات فى زمن مخصوص بشروط مخصوصة». هذا التعريف يدرسه طالب إعدادية وثانوية أزهرية، فيظن من يعرفه أنه قد عرَّف الصوم، لكن الحقيقة أنه عرَّف الهيكل العظمى للصوم، فأين اللحم والشحم والجلد والملبس؟ إن هذا التعريف يشتمل على ثلاث جمل، وكل جملة منها تشتمل على مسائل لا حصر لها: (1) الجملة الأولى: «إمساك عن المفطرات»، ما هى المفطرات؟ هل هى الثلاثة أشياء الواردة فى قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} (البقرة: 187)، فتكون المفطرات ثلاثة أشياء على سبيل الحصر إذا كانت من الفجر حتى المغرب، وهى الأكل والشرب والرفث إلى النساء؟ هذا كلام بسيط، ومعقول وكل الناس تفهمه، لكن ما رأيك فى تفسير كل مفطر من هذه الثلاثة؟ (أ) الفطر بالأكل: هل يشمل ما لا يسمى طعاماً فى العادة كالتراب والزجاج؟ وهل يشمل الأكل الذى يدخل المعدة من خرطوم من فتحة من البطن على غير الوجه المعتاد؟ وهل يشمل استنشاق الدقيق والعطور وروائح الطعام خاصة فى مشويات اللحم؟ وهل يشمل ذوق الطعام لربة البيت أو لشيف المطاعم إذا غلبه، وغير ذلك من صور الأكل غير المعتاد؟ (ب) الفطر بالشرب: هل يشمل ما لا يسمى شراباً فى العادة، مثل حقن العضل والوريد والحقنة الشرجية؟ وهل يشمل المضمضة والمبالغة فى المضمضة إذا غلب بعض الماء صاحبه، خاصة فى أيام الحر الشديد؟ وهل يشمل تقطير العين والأنف والأذن؟ وهل يشمل بلع الريق إذا قام بجمعه فى فمه، وكذلك بلع النخامة، وغير ذلك من صور الشرب غير المعتاد؟ (ج) والفطر بالرفث إلى النساء: هل يدخل فيه القبلة بشهوة، أو الاستمناء، أو لقاء الزوجين نسياناً أنهما فى رمضان؟ وهل تلك المفطرات الثلاثة التى ورد ذكرها فى القرآن الكريم «الأكل والشرب والرفث إلى النساء» هى مفطرات الصائم دون غيرها مما ورد فى السنة مثل القىء عمداً والحجامة والغيبة والنميمة وقول الزور؟ كل ما ذكرناه متفرع عن الجملة الأولى فى تعريف الصوم وهى: «الإمساك عن المفطرات». (2) الجملة الثانية فى تعريف الصوم، أنه «الإمساك فى زمن مخصوص»: هذا الزمن المخصوص حدده الله فى قوله -سبحانه وتعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} (البقرة: 187). إن من يسمع هذه الآية الكريمة يظن أنه قد فهم زمن الصوم وحسمه، لكن المسألة عميقة ولا حل إلا تحكيم القلب دون فرض وصاية الغير؛ لأن من يفرض عليك وصاية دينية مثلك تماماً فى قلة الحيلة فى كثير من مسائل زمن الصوم ابتداءً وانتهاءً، كما نوضحه فيما يلى: (أ) أما ابتداء الصوم فى اليوم فإنه لم يتحدد بساعة معينة، وإنما قد تحدد بعلامة تختلف باختلاف المقدرين، وهذه العلامة ليست فى المطلق وإنما ترجع إلينا، فقال تعالى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} (البقرة: 187). فهل أول الصيام هو طلوع الفجر نفسه، عندما يقول المؤذن «الله أكبر» الأولى؟ وهل يجوز له أن يبلع ما فى فمه، أم يمجه، أم يجب عليه أن يمسك عن الطعام قبيل الأذان؟ أم أن أول الصيام هو تبين الفجر عند الناظر إليه، أما من لم يتبينه فالأكل مباح له حتى يتبينه وإن كان الفجر قد طلع، أم أن أول الصيام هو طلوع الفجر الأحمر الذى يكون بعد الأبيض، وهو نظير الشفق الأحمر، يعنى قبيل الشروق، كما روى عن حذيفة وابن مسعود، ويدل له ما أخرجه الطبرانى وصححه ابن خزيمة وقال الألبانى: «حسن صحيح» عن طلق بن على أن النبى -صلى الله عليه وسلم- قال: «كلوا واشربوا حتى يعترض لكم الأحمر»، وأخرج أحمد وابن ماجه والنسائى بسند صححه الألبانى عن حذيفة بن اليمان قال: تسحرت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: هو النهار إلا أن الشمس لم تطلع. وفى رواية: كان الرجل يبصر مواقع نبله؟ (ب) وأما انتهاء الصوم فى اليوم، فقد يبدو لنا تحديده فى قوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} (البقرة: 187). وقد فهم الفقهاء دون خلاف نعلمه فى الأحوال المعتادة أن المراد فى الآية الكريمة هو أول الليل وهو غروب الشمس، مع أن «إلى» جاءت فى القرآن بدخول ما بعدها فيها عند الجمهور فى قوله تعالى فى آية الوضوء: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} (المائدة: 6)، فليس المراد أول المرفق بل المراد مع المرافق عند الأكثرين. لكن فى الصيام لو قلنا الليل داخل لما وجدنا وقتاً للفطر، ومع ذلك فقد استحدثت إشكالات فقهية فى تحديد انتهاء الصوم فى اليوم، منها: تحديد أول الليل فى البلاد التى يطول نهارها أو يتواصل نهارها ستة أشهر، هل سنلتزم بالطبيعة أم نقدر زمناً معقولاً للنهار ثم يفطر الصائم حتى مع طلوع الشمس؟ ومنها تحديد أول الليل لراكب الطائرة اتجاه المغرب، يرى الشمس فى العلو ولكنها فى الأرض غائبة هل يأخذ توقيت العلو أو توقيت الأرض؟ وغير ذلك من مستجدات. (3) الجملة الثالثة فى تعريف الصوم: «أن يكون الإمساك فى الزمن المخصوص بشروط مخصوصة». ما هى تلك الشروط؟ لقد اختلف الفقهاء فى حصرها وتفصيلها اختلافاً كبيراً بما يفتح باب اليسر لمن أراد التيسير وباب الغلو لمن أراد التعسير، منها: شرط النية، وشرط تبييت النية، وشرط الطهارة من الجنابة والحيض والنفاس، وشرط عدم السفر أو المرض وغيرها. وسنبين هذه الشروط فى لقاءات مقبلة؛ حتى نطمئن كل مكلف على دينه، ونحارب الفاشية الدينية وأوصياء الدين الذين جعلوا الدين رعباً وخوفاً وليس رحمة ويسراً. وإلى لقاء جديد غداً بإذن الله مع أنبوشة فقهية جديدة.