تبدو مرسومة كلوحة، وما هى بلوحة. هى الطبيعة كما خلقها الله، بريئة ونقية وصافية وساحرة، تماماً كبراءة ونقاء وصفاء وسحر ذلك النهر الذى يتسلل فى هدوء ووداعة قادماً من الجنوب. لكأنه لم يملأ الأرض التى جاء منها صخباً وضجيجاً وهو يندفع من الهضاب والمرتفعات، لكأنه لم يقطع آلاف الأميال والفراسخ هادراً مزمجراً لا يبقى ولا يذر، لكأنه لا يحمل بين جنباته ذلك السر الذى أودعه يوماً هذه الأرض المنبسطة فزادها انبساطاً ونماءً، لكأنه لم يعبد يوماً، ولم تنحر له الذبائح، ولا سيقت له الحسان جماعات وفرادى، لكأنه مجرد نهر عادى يربط ما بين الجنوب والشمال، ويجرى بالزيادة والنقصان كمجرى الشمس والقمر له أوان. هو النيل عندما تلمس مياهه الأراضى المصرية، هنا حيث المرحلة الأخيرة من رحلة طويلة تبدأ من نقطة موغلة فى البعد بقلب القارة السمراء، فى مصر يلتقط النيل ما انقطع من أنفاسه، تنبسط الأرض فى وجهه، تنحدر ببطء فتبدو وكأنها فى مستوى واحد، ينفلت من مجراه الضيق نسبياً إلى رحابة بحيرة ناصر التى تقع ما بين الحدود المصرية السودانية، حفرت فى الأساس لتستخدم كخزان طبيعى للمياه القادمة كل عام مع الفيضان، فى نهايتها يرتفع جسد عملاق يسد الطريق أمام المياه المتدفقة، ومن شكله حصل على اسمه الذى عرف به منذ بداية إنشائه قبل أكثر من خمسين عاماً «السد العالى». تزحف مياه النيل هادئة من فتحات السد، لا تكاد تتحرك حتى تعترض مجراها صخور أسوان التى تتشكل منها الجزر الكثيرة هناك، يمر النيل وسط تلك الجزر بين بيوت أهالى النوبة الملونة، تصافحه وجوه النوبيين السمراء اللامعة، وهم يعلقون أبصارهم بمجراه، يتبادلون معه نظرات خاصة، وربما حملّوه سلاماتهم لأجدادهم المدفونين فى قاعه منذ سنوات طويلة. تكتسب مياه النهر شفافية غريبة، تظهر ألوانه صافية للغاية، خاصة عندما تتلامس مع الكتل الجرانيتية المنتشرة على ضفتيه، وكذلك بالقرب من جزيرة «فيلة» حيث المعبد الذى يحمل الاسم نفسه، يلازم النقاء مياه النيل حتى مع مغادرتها مدينة أسوان فى طريقها للشمال. تنحدر المياه فى رفق ولين لتمر على «دراو»، و«كوم أمبو»، بينهما عشرات القرى الصغيرة التى تبرز وتختفى فاردة خضرتها على ضفتى النهر شرقاً وغرباً، تظهر حافة جبل السلسلة فيصاحبه النيل قليلاً فى رحلته، قبل أن يتخلص منه على مسافة معقولة من مدينة «إدفو» حيث مصنع السكر الذى يقع على حافة النيل، تصل المياه إلى مدينة إسنا التى تتبع إدارياً محافظة الأقصر، ثم أرمنت، فالأقصر. فى الأقصر يستعيد النيل ذكريات موغلة فى القدم، يستمد العون من تلك المعابد التى تقع على البر الشرقى حيث ترتفع الشمس كل يوم، أما تلك الموجودة فى البر الغربى فتحجبها عنه الجبال الملاصقة لضفته، هناك حيث يرقد ملوك الوادى وملكاته مقيدين فى توابيت من حجر، يعرفهم واحداً واحداً، وواحدة واحدة بالاسم وسجل الأعمال، ليس فى حاجة لمراجعة أعمالهم المنقوشة على جدران معابدهم أو مقابرهم الملكية، فسجله هو يحتفظ بتاريخهم الممتد بين جنباته، يكفيه أن يعرف من منهم حكم فعدل، ومن طغى فتجبر. على الأقل لأنه شاهد الإثبات الوحيد المتبقى على قيد الحياة، وربما دُعى ذات يوم ليدلى بشهادته فى حقهم، فيقول كل ما شاهده وعاصره لحظة بلحظة على مدار الأيام والسنين. يواصل النيل سيره من الأقصر ليمر على عشرات القرى القابعة عن يمينه وشماله، ترتفع جذوع النخيل على الضفتين كمسلات من خشب، تثقل قممها الثمار الحمراء اللامعة، وقد نضجت وطلبت القطاف، فى حين تزدحم الأراضى الزراعية بأوراق الذرة الخضراء، هذا موسم الذرة، يزرعها فلاحو الجنوب بكثرة، معولين على محصولها فى تزويج البنات وتعليم الأولاد وبناء الدور، وتشييد القبور، مثلها فى ذلك مثل أى محصول آخر يلقون ببذرته فى التراب، ويروونه من مياه النيل، ثم ينتظرونه بلهفة يوماً بعد يوم، حتى يحين الحصاد، فيجمعونه وهم لا يقوون على إخفاء فرحتهم. تنساب مياه النيل وسط القرى الممتدة على ضفتيه، يواصل رحلته من الجنوب للشمال، تتغير جغرافيا المنطقة قليلاً فينحرف النيل عن مساره ليجرى من الشرق للغرب عند مدينة قنا، حيث تقول كتب الجغرافيا إن صخرة عملاقة اعترضت مجرى النيل، فلما لم يستطع اختراقها بسبب هدوئه ورزانته، دار حولها فى كياسة وأدب جم صانعاً انحرافاً كبيراً فى مجراه تولد عنه ما عرف فى علم الجغرافيا ب«ثنية قنا»، يتجاوزها النهر فإذا به فى قلب الصعيد الجوانى، بين قبائل الهوارة والأشراف الذين يسكنون تلك الأرض الخشنة منذ دخول العرب مصر. حينما اختار الفاتحون الأوائل أن يسكنوا أرضاً شبيهة بتلك التى ولدوا عليها فى الجزيرة العربية ولم يجدوا أنسب من تلك البلاد فحطوا رحالهم على مقربة من مجرى النيل، ومدوا عروقاً لعائلاتهم استقرت لمئات السنين. فى مواجهة قنا على البر الغربى يرتفع معبد دندرة مختبئاً وسط حقول الموز بالقرية التى تحمل اسمه، بعده بقليل يظهر مصنع السكر بمركز نجع حمادى، قبله ارتفعت مصانع مماثلة عند كوم أمبو وإدفو وقوص ودشنا، وبعده مصنعان آخران فى جرجا والحوامدية، يقولون إن السبب الرئيسى فى إنشاء تلك المصانع على ضفاف النيل هو تسهيل نقل محصول القصب من قرى الصعيد التى لا ينضج القصب إلا بها، إلى مصانع السكر، ومنها إلى عموم المدن والقرى المصرية. يسهل النقل فى مراكب بخارية يمنحونها اسم «الدفّاع»، أو «الرفّاص»، لا تتحرك دون أن يصدر عن ماكيناتها صوت أشبه بالدقات المنتظمة، تطلق دخاناً أسود فى الهواء، وتملأ صفحة النيل رائحة غادية. لا ينقطع سيل القرى الممتدة على ضفتى النيل، بعضها يتشكل فى صورة أراض خضراء منبسطة، والبعض الآخر يتجلى فى شكل عشش مبنية بالطين، ذات أسقف من عيدان البوص، وجريد النخل الجاف، لا يعدم أهلها وسائل الترفيه عن أنفسهم، يجلسون على حافة النيل ليتسامروا ويتجاذبوا أطراف الحديث، فى حين يختار الصغار منهم أن يلقوا بأنفسهم إلى المياه فيسبحوا حتى تكل أطرافهم، وفى الصباح الباكر تتسلل النساء من العشش بأوانيهن وملابسهن ليغسلنها فى مياه النيل وهن يتسامرن ويتجاذبن أطراف الحديث كالرجال تماماً. تظهر مراكز محافظة سوهاج تباعاً: «البلينا» التى تضم معبد أبيدوس، و«جرجا» التى تحوى مصنعاً للسكر، و«المنشاة»، و«أخميم» التى اكتشفوا فيها تمثالاً للأميرة ميريت آمون ابنة رمسيس الثانى، ومدينة سوهاج، فالمراغة فطهطا فطما، يحافظ النيل خلال تلك المراكز التى تضم عشرات القرى على نقائه الشديد، تظهر على ضفته الشرقية جبال كثيرة، تطول حتى تبدو وكأن لا نهاية لها، وتقصر حتى تعطى الانطباع أنها ما ظهرت أصلاً، يحتضن أحدها ديراً للرهبان، يعلو فوقه صليب خشبى ضخم، تلك الجبال التى يروون الحكايات الكثيرة عنها، فمن قائل إنها آوت مطاريد الصعيد الذين اعتادوا قطع الطريق أمام مراكب البضاعة لنهبها، ومن قائل إنها خاوية على عروشها لا ضرر منها ولا ضرار، لا تختفى مراكز ومدن وقرى محافظة سوهاج حتى تبدأ مراكز ومدن وقرى محافظة أسيوط فى الظهور، هنا تتغير مياه النيل عما كانت عليه، تتعكر قليلاً وتفقد بعضا من صفائها الذى لازمها من قبل، يضيق المجرى فى بعض الأماكن ثم يتسع فى أماكن أخرى، تتكرر نفس المشاهد التى لازمت النيل فى المحافظات السابقة: أراض خضراء منبسطة مغروس فيها جذوع النخل، مثل ديدبانات صامدة لا يغمض لها جفن، جبال تشرف على مجرى النيل فتطول حيناً وتقصر فى أحيان أخرى، رجال يتسامرون وأطفال يلهون ونساء يتسللن فى الصباح الباكر ليغسلن أوانيهن فى صفحة النهر العريض. ثم تظهر المنيا التى يلقبونها بعروس الصعيد، ولعلها عروس النيل أيضاً، هنا يستعيد النيل ذكريات أخرى تروى هذه المرة حكايات عن فرعون متمرد، اعتزل أهله فى طيبة، وأسس مدينة جديدة عرفت قديماً باسم «أخيتاتون» قبل أن يتداول الناس اسمها المعروف حالياً ب«تل العمارنة»، هنا حيث أعلن إخناتون ثورته الدينية وعاش بصحبة زوجته الجميلة نفرتيتى، ثم مات ودفن فى مقبرة موجودة حتى الآن. تتوزع آثار المنيا الفرعونية بين مدينة إخناتون وتونا الجبل ومقابر بنى حسن وكنيسة البازيليكا فى الأشمونيين. هذا إلى جانب كنائس أخرى شهيرة أهمها على الإطلاق كنيسة العذراء مريم بجبل الطير، التى يقام فيها مولد السيدة العذراء فى كل عام كبيراً ضخماً يرد إليه بشر من كل شبر فى مصر. من المنيا يبدو الطريق مفتوحاً للقاهرة، على النيل أن يمر فى البداية على قرى ومراكز محافظة بنى سويف، هناك يفقد كثيراً من صفائه الذى صاحبه على مدار رحلته، يتغير لون مياهه من الأزرق الصافى، إلى لون داكن ليست له معالم واضحة، تظهر قمائن الطوب الأحمر وهى تنفث دخانها الأسود فى الهواء، تنبسط أراضى بنى سويف على ضفتى النيل الذى يخلفها وراءه وهو يتوجه بإصرار وعزم إلى عاصمة البلاد، تلوح فى الأفق تباشير الجيزة بقراها فى الغرب، بينما تظهر مصانع التبين بحلوان على أطراف القاهرة الجنوبية فى الشرق. وبينهما من حين لآخر تفلت فيلا أنيقة من وسط الزراعات مبنية على أحدث الطرز، ومزينة بألوان مبهجة ورائقة، تتزاحم مداخن مصانع الأسمنت والحديد والصلب فى التبين وهى ترسل بمخلفاتها الصناعية إلى الفضاء، فى حين يظهر مصنع السكر التاريخى بمدينة الحوامدية وكأنه يرسل تحياته إلى زملائه فى مدن الجنوب. لا تنقطع قرى الجيزة غرباً، ولا مصانع التبين ثم حلوان شرقاً، تستقطع الفيلات الأنيقة لنفسها مساحات ضخمة على النيل، لا مجال للمقارنة بينها وبين العشش فى صعيد مصر، شيئاً فشيئاً تأخذ تلك الفيلل فى الارتفاع، تظهر الكبارى العلوية، والعمارات الضخمة، مياه النيل تفقد تماماً ألوانها الصافية فتسوْد شيئاً فشيئاً، تبدو الأبراج أوضح ما تكون، مشرفة على النيل من عليائها، حاملة بين طوابقها «أهل كايرو» بكل خصالهم التى تحدث عنها المؤرخون فى كتاباتهم «يغلب عليهم الخفة والطيش» كما يقول ابن إياس، «كايرو» نفسها تصبح فى متناول العين حين تتجسد واضحة تماماً بأبراجها وفنادقها وكباريها العلوية وملاهيها المنتشرة على الجانبين، هنا ينهى النيل فصلاً من رحلته الطويلة صال فيها وجال بقلب الوادى، قبل أن يستعد لجولة أخرى فى الدلتا حيث تنتهى رحلته تماماً عندما يصب مياهه فى البحر المتوسط صانعاً بذلك خاتمة لرحلة قطعها وسوف يظل يقطعها ما بقيت مصر.