بحكم المهنة، أرتبطت منذ تخرجي في كلية العلوم عام 1967، بالبحث العلمي والذي هو منهج حياتي منذ هذا التاريخ. وعلي الرغم من أن البيئة المحيطة بالبحث العلمي في مصر لا يمكن أن تساعد الباحث علي أداء مهمته علي الشكل المبتغي، فإنني كنت أتحايل علي المعوقات ونقص الإمكانات، عملاً بالمثل الشهير القائل: الشاطرة تغزل برجل حمار. المؤكد أن "رجل الحمار" ذاتها لم تكن متوفرة حتي أغزل بها. صدقت هذا المثل في بداية حياتي العملية، وكنت دائم البحث عن "رجل الحمار"، وكنت أجدها وأكثر منها بكثير خارج حدود مصر. وجدت المبتغي من الإمكانات المعملية المتميزة في كل الدول التي سعيت للسفر إليها في أوروبا وأمريكا لأقوم بالبحث العلمي الذي أحبه ولا اُجيد غيره. ولكن داخل حدود الوطن، تجد أن البحث العلمي مهمش، بل وينظر لمن يقوم به نظرة دونية، ولا أكون مبالغا إذا قلت أن البعض ينظر للباحث العلمي نظرة إرتياب، وأخشي القول أن البعض يري الباحث العلمي في مصر أنه نصاب. لست الأن في موقع يتيح لي تقييم الموقف، قد يكون بالفعل بعض ما يقوم به الباحثين يفتقر للمصداقية أو الجديه، ولكني أعلم علم اليقين أن الكثير من الزملاء ينفذون بحثاً علمياً صادقاً ومتميزاً علي الرغم من ندرة الإمكانات البحثية. ولكن، بمرور الزمن أدركت أن مشكلة البحث العلمي ليست الإمكانات ونقصها، ولكن المشكلة في الأساس في الإدارة. نحن لا نستطيع أن ندير شئوننا، والبحث العلمي هو أحد هذه الشئون التي لا نحسن إدارتها. كان ذلك عام 1971، عندما كنت في فيينا عاصمة النمسا، أقوم بأبحاث الدكتوراة، وكانت أول مرة أدرك فيها أن المشكلة ليست في نظام التعليم المتخلف ولا أخلاقيات الباحث ولا نقص الإمكانات، بقدر ما هي عجز إداري بلغ أقصي الحدود. أقمت في المدينة الطلابية في فيينا، وكان لي جار دمس الخلق نمساوي الجنسية، وبطبيعة الحال كان المطبخ المشترك هو المكان الذي يمكن أن نلتقي فيه، ونتبادل الأحاديث التي لم تكن تخلو من النوادر لإختلاف الثقافات. سألت جلبرت، وهو اسم جاري النمساوي، ماذا تدرس. فقال لي إنني أقوم بأبحاث الماجستير والتي تتركز في تطوير المرآه الجانبية للسيارات، وأن شركة فولكس فاجن هي التي تمول الأبحاث وتغطي كافة مصاريف الماجستير. ولأن الثقافات مختلفة، بادرته بالقول أنت تضيع الوقت، هل تطوير مرآة السيارة يحتاج لماجستير. قال لي بل يحتاج للعديد من رسائل الماجستير والدكتوراة، وما أنا إلا حلقة بسيطة في آلة كبيرة، وأن الشركة كلفتي ببعض المهام المحددة، مثل أن لاتهتز المرآة (وكات ذلك مألوفا في هذا الزمن)، وأن لا تصنع من الزجاج السهل الكسر وأن تكون قادرة علي أن تعكس صورة حقيقية ليس بها مبالغة التكبير والتصغير وأن تستطيع تعديلها دون فتح شباك السيارة. بالطبع كل هذه الأهداف أصبحت غير ذات بال الأن. والفضل ليس لزميلي جلبرت ولا لشركة فولكس فاجن التي مولت الأبحاث، ولكن الفضل كل الفضل للنظام الإداري الذي أستطاع أن يحدد الأهداف ويجد المستفيد، ثم عن طريق مسابقات يفوز الأعلي كفاءة ليقوم بالعمل، ثم يأتي الجانب الأهم، بعد إسناد العمل للباحث، وهو المتابعة وحل المشكلات إذا وجدت، وذروة السنام في أن هذا العمل الذي أنفق عليه الجهد والمال والخبرة ، أن يتم تطبيقه في أسرع وقت، لأن المنافسة شديدة وقبل أن تنال شركة أخري شرف التطوير من خلال البحث العلمي. أقول لكم ياسادة أنني في هذا اليوم أدركت حجم المأساة التي نعيشها، ووجدت الإجابة علي السؤال: لماذا هم يتقدمون ولماذا نحن متخلفون؟. العالم المصري عندما يتواجد في البيئة الصحيحة ذات النظام الإداري السليم يبدع حتي يصل إلي نوبل العلوم، بينما هو هو ذات الشخص لو بقي في مصر فلن يحصل إلا علي خفي حنين. كان هذا اليوم، بالنسبة لي، علامة فارقة في حياتي، لأنني سألت نفسي ماذا أفعل في النمسا، الإجابة أجري أبحاث علي درجة عالية من التقدم عن الفوسفات المصري. أدت هذه الأبحاث إلي أكتشاف تركيز غير أعتيادي من العناصر الأرضية النادرة، والتي لها أهمية أقتصادية وإستراتيجية، في فوسفات أبوطرطور. ولكن الأهم، هل يدري أحد بما أقوم به من أبحاث؟ هل تنتظر جهه ما في مصر ما سوف أتوصل إليه؟ عل أبدت أي شركة أو هيئة في مصر أي أهتمام بهذه الأبحاث؟ والإجابة واحدة في كل الأحوال وهي بالطبع لا. ماذا حدث لذالك العمل الهام جدا بما فيه من معلومات، بعد أن تم إنجازه. الإجابة ما زال يرقد علي الرفوف في مكتبة الكلية. إذا أردنا أن ندرك مدي التخلف الإداري الذي نحن غارقون فيه إلي الأذقان، نكمل التفاصيل حتي نري الصورة بوضوح أكثر، أسندت شركة أبوطرطور دراسة عن مواصفات فوسفات أبوطرطور لشركة فرنسية بمبلغ خمسة مليون دولار، لن أدعي أن ما قمت به في فيينا، افضل ولكن علي الأقل يغطي الجزء الأكبر من أهدف الدراسة التي مولتها الشركة. يندهش كل أصحاب العقول عندما يعرفوا أن الدراسة التي أنتهيت منها عام 1974، قد تكررت وبصورة تكاد تكون نمطية في عدة جامعات مصرية، وأيضا أمريكية، دون أن يشغل ذلك بال أحد في المجلس الأعلي للجامعات. ليس لدينا قاعدة بيانات ونظام إداري بدائي يمنع تكرار التسجيل لدرجة علمية علي موضوع سبق أن تم بالفعل أو يتم بالفعل في نفس الوقت. من الممكن أن يكون لدينا أكثر من تسجيل في أكثر من جامعة علي ذات الموضوع البحثي، وهذا لا يؤرق أحداَ، كأن الجهد والمال الذي يهدر بغير فائدة، لايخص هذا الشعب المكافح. قال الشاعر العربي قديما: "بالعلم والمال يبني الناس ملكهم * لم يبني مجد من جهل وإقلال" ولكني أري أن أهمس في آذن الشاعر واقول له عفواً ، العلم والمال وحدهما لا يبنيان مجداَ. إنما المجد يحتاج لنظام إداري رشيد قبل العلم وقبل المال. مشكلتنا ليست نقص الإمكانات المعملية ولكن في نظام إداري فعال يربط ما بين قدرات العلماء و الإمكانات المتوفر وإحتياجات الصناعة ومشاكلها التي تبحث عن حل. عندئذ سيكون المثل القائل" الشاطرة تغزل برجل حمار" صحيحا وقابل للتنفيذ. * الأستاذ المتفرغ بكلية العلوم بجامعة القاهرة