الخامات الجيولوجية في مصر متعددة ومتنوعة، ولكن كما يقول المثل البلدي: بيطلع في كل حارة عفريت. وحتي نضع الأمور في سياقها الصحيح، دعنا نحدد ما هي تلك الخامات وما هى العفاريت التي تخرج من بين ثناياها. المعروف أن الوادي الجديد توجد به أكبر أحتياطيات للفوسفات في مصر. من المؤكد ان الفوسفات متوفر في الواحات الخارجة وهضبة أبوطرطور والواحات الداخلة، ويوجد أيضا جنوبا عند واحات دُنجل وكركر. ولكن لم ينتج فوسفات من أي منها، باستثناء ما يحدث حاليا من كشط الخامات المكشوفة في أبو طرطور. ويمكن أعتبار الإحتياطي الجيولوجي في الواحات الداخلة هو الثاني بعد هضبة أبو طرطور، حيث يقدر ما بين 500 إلي 1000 مليون طن. ولكن، هذه الخامات متوسطة الجودة، حيث يصل المتوسط الحسابي لتركيز خامس أكسيد الفوسفور، وهو مقياس جودة الخام، حوالي 24% بينما الجودة المرغوبة في التصنيع أو التصدير هي 30%. ليس هذا فقط، بل أن هناك عائق أخر شديد الأهمية وهو مسافة النقل والتي قد تزيد عن 700 كيلومتر. والآن نسأل أنفسنا السؤال الهام وهو، هل لو أن بلد محترم وواعي، قدر له أن يمتلك هذا الكم الهائل من الخامات المنخفضة الجودة البعيدة في مسافة النقل، هل كان سيتركها كما نفعل نحن. إذا كانت المراكز البحثية، التي تنفق عليها الدولة مليارات كل عام، مثل مركز بحوث الفلزات في التبين والمركز القومي للبحوث ومعامل المساحة الجيولوجية والمراكز البحثية في الجامعات المصرية في كليات الهندسة والعلوم ، سوف تعجز عن إبتداع أسلوب خاص لتركيز هذه الخامات بل وتصنيعها جزئيا في موطنا، فما فائدة البحث العلمي إذاَ. ولماذا ننفق أموال دافعي الضرائب علي ما لا طائل من ورائه. بالطبع لن أتحدث عن هضبة أبو طرطور، لأنني قد قلت كل ما يمكن أن يقال عن كيف أننا نضيع فرص أستثمار محققة ومؤكدة في هذه الهضبة، التي إبتلاها الله بسوء الإدارة المركب. لكني أفضل أن أذهب بقلمي إلي خام أخر ليس أسعد حظاً من الفوسفات، وهو خام الحديد. عرف خام الحديد، أول ما عرف، في أسوان عند قرية أبو الريش. نضبت الخامات مع نهاية الستينات، ولكن الله كان رحيما بنا، حيث تم أكتشاف الخامات الأفضل والأكثر وفرة في الواحات البحرية في مناجم البويطي والجديدة وغيرها. صحيح أن إكتشاف هذه الخامات كان وليد الصدفه في أواخر الستينات، ولكن دعمت هذه الخامات العمل في مصانع الحديد والصلب في حلوان، بالطبع بذل جهد كبير من المراكز البحثية في التبين لإحداث التوافق بين تركيب الخامات التي تم إكتشافها في الواحات البحرية وبين مواصفات الأفران في مصانع الحديد والصلب. ولكن، الخامات الجيدة في الواحات البحرية تستنزف بمعدلات سريعة، وسوف نضطر إلي التعامل مع خامات متوسطة الجودة، أو أستيراد خامات الحديد من الخارج. بالطبع اتباع منهج أستيراد خامات الحديد ليس معيبا، ففي اليابان قدوة حسنة. تبقي المعايير الإقتصادية، والمكسب والخسارة هي المعيار. ووفقا لهذا المنهج يجب أن يعاد التفكير مرة أخري في الخامات الوفيرة جدا والمتغيرة الجودة ، والتي أعلن عن إكتشافها في أسوان في وسط التسعينات. لهذه الخامات بعض المشاكل التقنية مثل زيادة نسبة بعض المكونات الضارة ومنها الفوسفور والكلور وكذلك إنخفاض نسب الحديد أحيانا. أقول مرة أخري، ما فائدة المراكز البحثية، إن لم تقدم لنا الحلول الشافية الكافية، والتي لا يأتيها الباطل من بين يديها. علي كل حال، يبقي نموذج الكاولين هو الأكثر إثارة للتسائل، فلدينا أحتياطات وفيرة ولكن أغلب الشركات العاملة في مصر تسد أحتياجاتها بالكاولين المستورد. ليس في ذلك عيب، كما ذكرت سابقاً، ولكن العيب وكل العيب أن تكون لدينا خامات علي أي درجة من الجودة ولكننا لا نستطيع التعامل معها. إن الكاولين المستخدم في صناعة الورق هو الأغلي سعرا والأعلي جودة. وكثير من خاماتنا الجيدة إبتلاها الله بوجود اكاسيد وهيدروكسيد الحديد والذي يُخرج الكاولين من مجال الصلاحية لصناعة الورق، ولكن يمكن توظيفه في صناعات الورق المصقول الملون. ولكن، لماذا لاتقدم لنا المراكز البحثية حلولاً لرفع جودة الكاولين والتخلص من الشوائب. أعلم يقيناً أن مركز بحوث الفلزات قدم أبحاث متميزة لمعالجة الكاولين، ولكن مرة أخري ما الذي تم تنفيذه منها علي المستوي الصناعي؟ الرمال البيضاء أو ما يعرف باسم رمل الزجاج والبلور، وهي رمال تتميز بدرجة النقاء العالية جدا. ولدينا أحتياطات كبيرة جدا منها في غرب خليج السويس وخاصة الزعفرانة وأيضا في سيناء. ولكن يتواجد بهذه الرمال شوائب ضارة مثل وجود اكاسيد الحديد والتي ينبغي أن لا تتعدي 0.05 %، وكذلك وجود بعض حبيبات المعادن الثقيلة مثل الكروميت والإلمنيت، وهي تفسد مواصفات الرمال في صناعة الزجاج والبلور. شهد العالم المتقدم طفرة هائلة في صناعة البلور خلال النصف قرن الأخير. الأبحات والتطور التقني قد رفع القيمة المضافة للرمال البيضاء إلي آفاق جديدة، ما زلنا نحن ومراكزنا البحثية بعيدين عن هذه التطورات. القيمة المضافة قد تجعلنا نعيد التفكير كثيراً في طريقة التعامل مع خاماتنا الإقتصادية مثل الرمال البيضاء والفوسفات والكاولين وغيرها. ما قيل سلفاً عن بعض الخامات المصرية، بمكن أيضا أن يقال عن خامات أخري مثل الفحم في جبل المغارة والذي أغلقت مناجمة وفتحت مرارا، وعثرة الرأي تظهر بوضوح عند التعامل مع فحم المغارة. وبالطبع فإن الطفلة الزيتية في القصير وسفاجا لاتجد من ينصفها بالقرار المناسب. والرمال السوداء عند مصبات الدلتا في البحر المتوسط والتي اُثير، وما زال، حولها الكثير من الزوابع والتي نكتشف في نهايتها أنه لا مردود ولا عائد يرتجي، فالرمال السوداء موجودة لا مِراء، والثروة المعدنية بها حقيقة أيضا بلا شك، ولكن العيب فينا واساليب الإدارة. لعل الكثير من لايعلم أن الرمال السوداء كان يستغلها بنجاح مستثمر مصري من أصول أرمنية أثناء الحكم الملكي ، وحتي قرارت التأميم، وكان يبيع الركاز ولا يفصل المعادن. كان ذلك أكثر ملائمة له بما يملك من إمكانات ومعطيات السوق في زمنه، دون تقعر ومحاربة طواحين الهواء. لم تعد الرمال السوداء تتكون من جديد منذ أن بني السد العالي، ولكن الرواسب القديمة موجودة ومعروفة. صحيح أن بعضها يعيد البحر تدويره وإعادة ترسيبة في غير مكانها وصحيح أيضا أن بعض المناطق زحف عليها العمران والمنشأت السياحية. ولكن ما زلنا نملك زمام التنمية. ويبقي خام الذهب، وهو من الخامات التي عرفها وأستكشفها وأستخلصها وأستخدمها المصري القديم، منذ فخر التاريخ. ولكننا نتعثر في أستغلال الذهب حتي أن النموذج الناجح جدا في مناجم السكري، تثار حوله الريب والشكوك فيما يعود علي الوطن من فائدة. وما زالت مناجم الذهب في حمش والفواخير وغيرها لاتعمل وما زالت العصابات تنهب الذهب في رواسب الوديان بجنوب الصحراء الشرقية. ولكن، أري بصيص من النور يسطع من خلال ما تقوم به شركة حلايب وشلاتين. أدعو الله أن يكون الغد أفضل من الأمس، وأن نتعلم كيف نستفيد مما لدينا وكيف نعظم القيمة المضافة لكل ما نملك من خامات. * الأستاذ المتفرغ بكلية العلوم بجامعة القاهرة