في المقال السابق، تحدثت عن تخليق البترول في الطبيعة، شارحاً أن البداية تكون بترسيب صخور غنية بالمواد العضوية، تتبعها المرحلة الثانية والتي تكون بفعل النشاط الميكروبي، حيث تعمل البكتريا اللاهوائية علي تحويل المواد العضوية إلى كيروجين، وفي المرحلة الثالثة يتحول الكيروجين بفعل الحرارة والضغط، وعلي فترات زمنية جيولوجية، إلى البتيومين. مكونات البتيومين هي ذاتها مكونات البترول، ولكن الفارق أن البتيومين يجب أن يتحرك من مكان المنشأ إلى مناطق تجمعه، حتي نسميه بترول. يتميز البتيومين بأن بعض مكوناته سائلة والبعض الأخر غازي أو حتي صلب، ولذلك عند الهجرة من مكان المنشأ عبر الصخور، ينتقل البتيومين الغازي أسرع كثيراً من البتيومين السائل. ويذكر أيضا أن البتيومين الصلب، علي الرغم من كونه صلبا، فإنه يتحرك نظراً لقدرته علي الذوبان في المذيبات العضوية والتي تتوفر،، بالطبع في البتيومين السائل. والجدير بالذكر أن الكيروجين والذي يعتبر الأب الشرعي للبتيومين، لا يستطيع الحركة لأنه لا يتواجد إلا علي الصورة الصلبة فقط وهو غير قابل للذوبان في الماء أو المذيبات العضوية. يتصادف أن تتوقف عملية تكون البترول في الطبيعة عند أحد المراحل، ولا يستكمل نضج البترول. ذلك بفعل بعض المؤثرات الجيولوجية والتي لا داعي للخوض فيها الآن، مثلاً عندما لا تدفن الصخور الكيروجينية عند أعماق ملائمة، وتظل علي حالتها الصلبة ولا تنتج البتيومين الذي كان من الممكن أن يهاجر من المنشأ صاعدا إلى المصيدة البترولية التي تجمعه. حدث هذا في مناطقة كثير من العالم منها مصر والأردن وسوريا والمغرب وتونس، وعلي المستوي العالمي يذكر أسيتونيا وتركيا وكندا والولايات المتحدةالأمريكية. مع بدايات القرن العشرين نجح علماء غرب أوروبا في تخليق البترول من الصخور الكيروجينة، وكانت قصة النجاح المثالية في أسيتونيا منذ عام 1928 حيث أستحدث نموذج لمحطة توليد كهرباء بحرق الصخور الكيروجينية. علي الرغم من أن أحتياطات الصخور الكيروجينية، والتي تعرف عادة باسم "الطفلة الزيتية"، ليست كبيرة في أسيتونيا، إلا أن أكبر قصص لنجاح إستخدامها في توليد الطاقة وتخليق النفط صناعياً، كانت في هذه الدولة والتي تقع في شمال شرق أوروبا، جنوبفنلندا. تنتج أسيتونيا 92% من الطاقة الكهربية التي تحتاجها من الطفلة الزيتية، كما أنها حققت قدر من الإكتفاء الذاتي من البترول المخلق من الطفلة الزيتية. بينما دول مثل الأردن والتي تمتلك أحتياطي من الطفلة الزيتية تتجاوز إنتاجيته من النفط تعادل 100 بليون برميل، أي أكثر من ثمانية أضعاف ما لدي أسيتونيا، فالاردن لم تنتج شئ حتي الآن، علي الرغم من أن العديد من الشركات العالمية العملاقة في صناعة البترول قد ضخت إستثمارات كبيرة في صحراء الأردن، أملا في تحقيق أرباح مناسبة. تزداد الرغبة للإستثمار في تخليق النفط من الطفلة الزيتية كلما أرتفع سعر النفط، فبينما سعر انتاج النفط تقليديا في بعض الدول الخليجية لا يتجاوز خمسة دولار للبرميل، فإن سعر البرميل من النفط المخلق من الطفلة الزيتية يتراوح بين 30 و60 دولار، في أغلب الأحيان. ويلاحظ التفاوت الكبير في سعر إنتاج النفط من الطفلة الزيتية، وذلك لعدة أسباب بعضها فني وشديد التخصص، غير أنه من الممكن القول أن الوضع الجيولوجي وتكلفة الإستخراج ونوع الكيروجين هي من بين أهم الأسباب. قطعت الأردن شوطاً كبيراً جداً في أستكشاف ما لديها من الطفلة الزيتية، بينما نحن في مصر مازلنا لاندري شئ عن ما لدينا من أحتياطات، فيما عدا منطقة القصير وسفاجا بالبحر الأحمر. نعود من جديد لأساليب إنتاج الكهرباء و النفط من الصخور الكيروجينية والتي تعرف مجازاً باسم الطفلة الزيتية، حيث يفضل العاملون في هذا المجال إلى تقسيم طرق التشغيل إلي نوعين، هما داخل وخارج الموقع الجيولوجي. بمعني أن الطفلة الزيتية قد يمكن تشغيلها وهي في موقعها الجيولوجي، أو أنه يلزم أستخراجها من موقعها الجيولوجي ونقلها للموقع الذي ستتم فيه عمليات التشغيل. الفارق بين الأسلوبين في التشغيل كبير جدا. طرق التشغيل داخل الموقع الجيولوجي تعتمد في الأساس علي حفر مجموعة من الآبار في منطقة محددة، حيث تكون وظيفة هذه الآبار هي عمليات التسخين والذي قد يستمر لآكثر من عامين. يكون من نتيجة ذلك أن ينضج (يطبخ) الكيروجين ويتحول إلي البتيومين، والذي يمكن إستخراجه فيما بعد علي صورتيه السائلة والغازية. واقع الحال، لم يكتب لهذا الأسلوب في التشغيل النجاح المنشود حتي الأن. وكثرت الإنتقادات البيئية لم تسببه هذه الطريقة من تلوث لمياه الخزان الجوفي. اما طرق التشغيل خارج الموقع، أي بعد استخراج الصخر من موقعة الجيولوجي إلي موقع التشغيل، فلقد شهدت نجاحات في دول عديدة، وتنوعت التقنيات حتي أن العقدين الأخيرين شهدا تطورا تكنولوجيا غير مسبوق في إنتاج الطاقة والنفط معاً من الطفلة الزيتية. حتي نبسط الأمر، فإن أسلوب الحرق المباشر لإنتاج الكهرباء يستلزم عدم الإستعانة بمصدر طاقة إضافي، وكان الحد الأدني للمواصفات اللازمة لتشغيل الطفلة الزيتية أنها يمكن أن تنتج أكثر من 1500 كيلوكالوري لكل كيلوجرام من الصخر، عند الحرق. ولكن التقدم الذي حدث مؤخرا نجح في استخدام الطفلة الزيتية التي تنتج فقط 800 كيلوكالوري لكل كيلوجرام من الصخر، دون الإحتياج لمساعدة من مصدر طاقة خارجي أو إضافي. نجح ذلك في دول جوار، وهي تقنية تمتلكها شركات عالمية أنفقت الكثير من أجل بلوغ هذا المستوي التقني الراقي. تعددت نماذج التقطير التي تنتج طاقة كهربية وأيضا تقطر جزء من محتواها العضوي إلى بترول، بل ويمكن لهذه النماذج أن تستوعب حوالي 10% نفايات، ونسبة اكبر من بعض النفايات مثل أطارات السيارات المنتهية الصلاحية وما في حكمها. بيد أن الشركات المالكة للتكنولوجيا لن تقدم أسرارها لأحد، ولكن تتقدم للعمل في أي موقع لديه الطفلة الزيتية الجيدة بشروط ليس من بينها تسريب أسرار التكنولوجيا. ليس لدينا أختيار سوي أن نعتمد علي هذه الشركات لنتشارك معا في جزء من الربح، أو أننا ننتهج طريقا أصعب وهو عدم استيراد التكنولوجيا بل نسعي إلي توطينها، علي أن نتقبل الفشل مرة وراء أخري حتي بلوغ النجاح، عندها سيكون لنا منهجنا المتوافق مع ما لدينا من خامات وخبرات ومعطيات أقتصادية. يبقي السؤال الأزلي: هل حقا لدينا الرغبة والقدرة علي ذلك؟ في عام 2010 حصلت أحد الشركات الأمريكية علي براءة أختراع علي تصميم لتقطير البترول من الطفلة الزيتية. وصف التصميم علي أنة الأفضل بيئيا. يعتمد التصميم علي تحضير ما يسمي كبسولة وهي حفرة ذات أبعاد 380 متر طولاً و 150 متر عرضا، علي أن تكون هذه الكبسولة أقرب ما تكون للموقع الجيولوجي الذي ترقد به الطفلة الزيتية. تنقل الصخور المكسرة، ولكن دون طحن، إلي الكبسولة حتي الإمتلاء وتكبس لتقليل الفراغات للحد الأدني وتغطي بنواتج الحفر. تمر مواسير داخل الكبسولة لتسخين الكيروجين عند درجة 700 درجة مئوية ولمدة 180 يوم، عندها، يكون قد أكتمل نضج (طبخ) الكيروجين متحولاً إلي البتيومين بصوره الثلاثة أي السائلة والغازية والصلبة، ومضافا إليها منتج إضافي وهو الهيدروجين. يتم الحصول علي كافة المنتجات بأسلوب تقني رائع معد مسبقا عند إنشاء الكبسولة. قيل أن تكلفة إنشاء الكبسولة وجميع عمليات التشغيل وفقا لبيانات الشركة صاحبة التصميم تبلغ من 20 إلي 24 مليون دولار، بينما تبلغ قيمة المنتجات ما بين 60 و65 مليون دولار، بإعتبار ان سعر برميل البترول في السوق العالمي هو 80 دولار. بقي أن نعرف أن الدراسات التي تم تنفيذها علي الطفلة الزيتية في القصير أثبتت قدرتها علي إنتاج 110 لتر لكل طن، لو أخذنا في الإعتبار أن كثافة الصخر المعني حوالي 2.4، لأمكننا أن ندرك أن كل متر مربع من الطفلة الزيتية في بعض مناطق القصير قد ينتج أقل قليلا من برميلين من البترول عند الطبخ الجيد. * الأستاذ المتفرغ بكلية العلوم بجامعة القاهرة