■ قال لى رئيس الوزراء المهندس إبراهيم محلب: سنأخذ قسطاً من الراحة بعد الساعة الخامسة ثم نعود إلى جدول الأعمال.. سنذهب -مع الوفد المصرى- إلى موقع يتبع شركة «المقاولون العرب» فى أحد أجمل مناطق غينيا الاستوائية، سنأخذ فنجاناً من القهوة ونحن نشاهد غروب الشمس فى المحيط الأطلنطى. ■ لن أنسى أبداً تلك الطبيعة الساحرة فى تلك الدولة الصغيرة فى غرب أفريقيا.. سيظل لقاء السحاب مع قمم الأشجار عند أطراف الغابات ماثلاً فى الذهن على الدوام، كما سيظل مشهد النباتات الاستوائية الباهرة وجزُر الأشجار وسط مياه المحيط صامداً فى الذاكرة.. وأما أولئك السكان المحليون الذين يتجولون فى الغابات لقطع ثمار الموز والمانجو والأناناس ليعودوا إلى عائلاتهم بوجبات من الفاكهة الطازجة، فستبقى صورتهم موضع حب وتأمل.. كيف يمكن للإنسان أن يعيش مع الطبيعة وبالطبيعة.. داخل المكان وخارج الزمان. ■ تقع غينيا الاستوائية غرب القارة الأفريقية إلى جوار الكاميرون والجابون. وتقع عاصمتها «مالابو» داخل المحيط الأطلنطى. تصل مساحتها إلى «28» ألف كيلو متر مربع، وعدد سكانها «700» ألف نسمة.. وقد أصبحت فى الأعوام العشرة الأخيرة فى مقدمة الدول الناهضة فى أفريقيا بعد اكتشاف النفط والغاز بكميات كبيرة. ذهبت إلى غينيا الاستوائية ضمن الوفد الرسمى الذى رافق رئيس الوزراء المهندس إبراهيم محلب والذى ضم وزراء الخارجية والبترول والصحة والزراعة والإسكان.. وكانت معظم الأنظار تتجه إلى احتمالات عودة مصر إلى الاتحاد الأفريقى؛ ذلك أن القمة الأفريقية 2014 ستنعقد فى غينيا الاستوائية فى ضيافة رئيسها تيودور أوبيانج. ■ كان لقاء الرئيس أوبيانج لرئيس الحكومة المصرية والوفد الرسمى دافئاً ومثمراً.. تحدث الرئيس الغينى عن تقديره للرئيس عدلى منصور.. ثم تحدث عن تأثره الشديد بما فعلته مصر تجاه بلاده قبل عقود.. وقال: لقد أرسل الرئيس عبدالناصر قافلة طبية إلى بلادنا لمكافحة الملاريا والأمراض الاستوائية، ولم تأخذ مصر شيئاً مقابل ذلك.. لا سياسياً ولا اقتصادياً. إننى لا أزال أحفظ أسماء جميع الأطباء الذين جاءوا إلى هنا. إن مصر فعلت ذلك ولم يكن لدينا ما نعطيه لها.. لكنها كانت تعطى دون دراسة جدوى.. كانت دراسة الجدوى الوحيدة لها هى الرسالة الحضارية للدولة المصرية. ■ كان المهندس إبراهيم محلب -الذى تحدث باللغة الفرنسية- بارعاً فى استخدامه لتاريخ القوة الناعمة المصرية. وقد لاحظتُ وجه الرئيس، وكذلك رئيس الوزراء حين تحدث رئيس الحكومة المصرية عن زمن عبدالناصر وكبار ساسة أفريقيا الذين أنهوا عصر الاستعمار وأطلقوا عصر التحرر الوطنى.. كان مجرد ذكر اسم عبدالناصر كافياً لأن تلمع العيون وتُصغى الآذان. كان تقديرى -ولا يزال- أنه لا ينبغى أن يكون هناك مكان للاستقطاب الأيديولوجى أو الانحياز الحزبى فى السياسة الخارجية المصرية.. فيمكن للمرء أن يكون وفدياً أو ناصرياً أو ساداتياً داخل بلاده.. أما خارجها فهو «كل هؤلاء».. هو حصادُ كل جهودهم وهو وريثُ كل أعمالهم. هو سعد والنحاس، وهو ناصر والسادات، هو اليمين واليسار، هو وريث «الصدام مع الغرب» وهو وريث «الحوار مع الغرب».. هو كل ما مضى من أجل ما هو آت. ■ إن نقل الصراع السياسى الداخلى إلى الخارج هو أداة تحطيم لدور بلادنا.. فإذا ما شطب الوفديون ثورة 1952، أو شطب الناصريون ثورة 1919 أو حرب 1973، أو شطب الساداتيون عصر عبدالناصر، أو شطب الإخوان كل العصور؛ فإن الناتج النهائى لدور بلادنا لن يتجاوز نقطة الصفر. ■ إن الاستعمار الذى نهب أفريقيا عبر الغزو والحرب، وعبر التقسيم والتمزيق، يعود اليوم من جديد ليحصل بقوة الاقتصاد على ما لم يحصل عليه بقوة السلاح.. إنه «النهب الثانى» لأفريقيا.. أو هو الاستعمار الجديد. كانت الجيوش طلائع الاستعمار القديم وحُماة «النهب الأول»، واليوم تقف الجيوش حامية عن بُعد جيوشاً جديدة.. من زمن العولمة جاءوا مرة أخرى بعد أن ضاقت عليهم موارد الشمال، لأجل سرقة الأمل من عيون الجنوب! ■ ولقد كان خطأ وخطراً ما ذهبت إليه السلطة المصرية فى العقود الأخيرة من إهمال لأفريقيا، وخروج ممنهج وسريع منها. واليوم نشعر -عن حق- أننا مضينا ضد أنفسنا.. وسعينا ضد مصالحنا ومبادئنا.. بعد أن تحكّمت فئة محدودة القيمة فضّلت التبعية الرخيصة على المكانة الكريمة. إن مصر إذ تحتاج أفريقيا فإن أفريقيا هى الأخرى تحتاج إلى مصر.. تحتاج القاهرة أن تتحرك على مدار الساعة من أجل استعادة تاريخ مجيد، وحماية مستقبل ممتلئ بالتحديات التى لا يمكن لمصر أن تواجهها وحدها دون أفريقيا، وتحتاج أفريقيا أن تشارك مصر من جديد فى عملية واسعة ل«استعادة الأمل» فى أفريقيا، وحماية القارة الرائعة من محنة النهب الثانى لشعوبها. كان النهب الأول لأفريقيا أوروبياً.. ولكن النهب الثانى هو أوسع كثيراً، وتمتد شركاته ومؤسساته من مشرق الأرض إلى مغربها. لكن القارة اليوم تمتلك فرصاً حقيقية للمواجهة.. ثمّة نُخب أكثر تعليماً، وثمّة تراث وطنى فى الاستقلال والتحرر، وثمّة رغبة حقيقية لدى شعوب أكثر من خمسين دولة أفريقية فى أن تواصل الطريق الوطنى: يسقط الاستعمار.. قديمُه وحديثُه. لا ينبغى أن تكون أفريقيا مقصداً لجشع القارات الأخرى.. بل يجب أن تكون مقصداً للتعاون والمصالح المشتركة حتى تلحق القارة بباقى العالم، ويجد الأفارقة مكاناً لائقاً على كوكبهم الذى بات صادماً وقاسياً. ■ لقد عدتُ من خط الاستواء ممتلئاً بالأمل.. بأن ما مضى من معاناة القارة قد لا يعود، وبأن تعاون الجنوب- جنوب قد بات حتمية تاريخية وحتمية جغرافية فى آنْ. إن أفضل ما تشهده أفريقيا اليوم هو رغبة الأجيال الجديدة فى حياة أفضل.. وأفضل ما تشهده بلادنا أنه، وبعد نومٍ عميق وسُبات تام، بدأت القاهرة تتحرك.