علي الرغم من أن إنفجار المفاعل النووي الرابع في تشيرنوبل بأوكرانيا، كان حدثا مروعا يصنفه البعض علي أنه الأكبر في تاريج الإستخدام السلمي للطاقة النووية، إلا أنه لم يكن الأول ولا الأخير، لقد سبقه حوادث كثيرة مأسوية، الكثير منها كان في أمريكا وهي الأكثف إستخداما للطاقة النووية، سلماً وحرباً. ولكن لم يدري عامة الناس بأغلب الحوادث، والتي أدت إلي تسرب إشعاعي، بلغ في كثير من الأحيان المياه السطحية والجوفية والتي يعتمد عليها الإنسان في سد إحتياجه. يروي لنا التاريخ أن مفاعلات تشيرنوبل ذاتها تعرضت لأحداث متلاحقة بعد إنفجار المفاعل الرابع في عام 1986، فقد تعرض المفاعل الثالث لحريق كبير أدي لإغلاقه في 1990، كما خرج المفاعل الأول من نطاق التشغيل في 1996، ثم أغلق المفاعل الثاني والأخير في عام 2000، ليطوي تاريخ واحدة من أكبر مراكز إنتاج الطاقة بالقدرات النووية في تاريخ الإنسان، حتي جاء حادث فوكوشيما في اليابان في يوم 11 مارس 2011، أي بعد حوالي ربع قرن من حادث تشيرنوبل، والذي حفظ تاريخه في يوم 26 إبريل 1986، كعلامة فارقة في تاريخ أستخدام الطاقة النووية سلمياً. لقد أدي الحادث إلي ترويع متخذي القرار، فتم تأجيل تنفيذ بعض العقود التي كانت معدة للتنفيذ، بل وتم إلغاء الكثير من العقود. وشهد الربع الأخير من القرن الماضي عزوف جماعي عن الإستثمار في هذه الطاقة. حتي أن دول عربية من بينها مصر والسعودية أرجأت تطبيق هذه الطاقة علي سواحل البحرين الأحمر والأبيض. ووظف الكاتب الساخر يوسف عوف، هذا العزوف عن إستخدام الطاقة النووية في قصة مسرحية، تحكي أن الحكومة المصرية بعد أن أصابها الخوف من الطاقة النووية، عمدت للتأجيل دون أن تبلغ الشركة المنفذة والتي وردت المصادر المشعة ليسقط في يدي الحكومة والتي عينت غفير لحراسة المصادر المشعة، والذي أستغل موقعة ليوهم الناس بقدرة هذه المواد المشعة علي العلاج، بل وأيضا لحمل العواقر من النساء. قصة وهمية مثيرة من صنع خيال المؤلف، ولكنها تلخص كيف أن الحكومات في الدول النامية أصابها الهلع، بينما توجه العالم المتقدم للبحث العلمي ليوصف أسباب الكارثة، وما يمكن تنفيذة للتحوط من مثلها مستقبلا. وكانت أهم أساليب التطوير في تقنيات التبريد والمواد الخام المستخدمة في صناعة هذه النظم، ونشرت عشرات البحوث عن تطوير نظم الأمان عند حدوث خلل مفاجئ عند التشغيل. موقع فوكوشيما النووي يحتوي علي ستة مفاعلات لإنتاج الطاقة الكهربية، في الأساس. تعرض لموجة تسونامي هائلة، أدت إلى خروج ثلاثة مفاعلات من الخدمة وعجز عن أداء العمل، مع أحتمالات تسرب إشعاعي. التسونامي الذي تعرض له موقع فوكوشيما نتج من حدوث زلزال في قاع المحيط، تتسبب الموجة الزلزالية في تحريك ماء المحيط في إتجاه الشاطئ، وتزيد قدراتها التدميرية كلما قربت من الشاطئ. لم تسجل حالة وفاه واحدة كنتيجة مباشرة لخلل المفاعلات النووية. ولكن تم إخلاء حوالي 300 الف مواطن، تحسبا للتسرب الإشعاعي. تعرض موقع فوكوشيما لضرر بالغ نتيجة التسونامي، الذي بلغ أرتفاع موجه إلى 15 متر وغطت الأمواج بعض المباني بما يزيد عن 10 متر. بذل العاملون في الموقع جهود خارقة لتجنب الإنفجار. ولكن وعلي الرغم من ذلك حدثت إنفجارات في ثلاث مفاعلات بين 12 و15 مارس، وعلي الرغم من أن مظاهر التسرب الإشعاعي والذي أعترفت به الحكومة اليابانية بعد عامين من الحادث، إلا أنه أضحي جلياً لكل ذي بصيرة، أن الأثر البيئى لحادث فوكوشيما لا يمكن مقارنتة بما حدث في تشيرنوبل. ذلك لأن السنوات الخمسة وعشرون التي مرت بين الحدثين تم فيها تطور وسائل أمان التشغيل في المفاعلات، وبصورة شاملة. فعند وصول التسونامي لموقع المفاعلات، أغلق ثلاثة منها بصورة آلية، ودون إنتظار لأوامر، لقد تحسنت أساليب الأمان. بل أننا يمكن أن نقول أن حادث فوكوشيما ذاتة دفع دراسات الأمان النووي لأفاق جديدة. كلنا يعلم أن اليابان هي رائدة صناعة الريبوت (الإنسان الألي) في العالم، ولكن أتضح أن ما لديها من ريبوت لا يستطع تأدية أعمال الرصد والإستكشاف داخل الموقع النووي لتحديد التدمير وإحتمالات التلوث، مما أضطر الحكومة اليابانية لطلب المساعدة من الجيش الأمريكي لتطوير ريبوت أكثر كفاءة لأداء المهمة. أدي ذلك إلي أعتماد تعديلات أساسية إضافية لنظام التبريد في 12 مارس 2012، أي بعد عام كامل من الحادث. وقع اللوم علي مصممي المبني ومهندسي التشييد الذين لم يراعوا أن موقع فوكوشيما هو في وسط حزام زلزالي نشط، قد تبلغ شدة الزلازل فيه أعلي من 7 بمقياس ريختر، وكان يجب توقع الأثر المدمر بفعل الزلازل ذاتها، أو التسونامي الذي يمكن أن يُخَلق بفعلها. أعلنت الحكومة اليابانية أنه تم رصد تسرب أشعاعي، وخاصة بنظائر اليود-131 والسيزيوم-134 والسيزيوم-137، وأن التلوث وصل لعمق 20 كيلومتر في المحيط الهادئ. وأعلنت بعض الدول الغربية إجلاء مواطنيها تحسباً لتلوث الأسماك وهي الأسرع تأثراً بهذه النظائر. غير أن الدراسات التي تمت علي مياه المحيط ورواسبة وكائناتة الحية ،ولكن علي نطاق أوسع، برهنت علي تواضع درجة التلوث، وإن كان ممكنا رصدها علي سواحل روسياوأمريكا ونصف الكرة الأرضية الشمالي بصورة عامة. ولكن تم توجيه اللوم للحكومة اليابانية، لأنها كانت تعلم مسبقا أن منطقة فوكوشيما هي في قلب حزام الزلازل. وأهم الدروس المستفادة من هذا الحادث هو عدم بناء مفاعلات قريبة من شاطئ البحر في أنطقة الزلازل النشطة، حيث الأثر المدمر للتسونامي. وهذه الإجراءات الوقائية تم الأخذ بها في كل العالم. قد يقول البعض، إذا لماذا تم أختيار موقع الضبعة غرب الأسكندرية ليكون موقعا للمفاعل المزمع بنائة قريبا. أقول أن مصر ليست اليابان، والبحر الأبيض ليس المحيط الهادئ. فمصر، وبحمد الله، خارج نطاق الزلازل، وأعنف الزلازل التي نتعرض لها تأتي من إتساع البحر الأحمر والزحزحة الجانبية لخليج العقبة، وجميعها بعيد عن الضبعة. ولم نرصد في التاريخ الحديث أو القديم أي تسونامي أثر علي شواطئ البحر المتوسط الجنوبية. وبالطبع، فإن التعديلات التي أقترحت في التصميمات الحديثة للمفاعلات النووية ستؤدي إلي تلافي ما حدث في فوكوشيما, هذا يعني أن التصميم الذي سيعتمد لمفاعل الضبعة سيراعي معاملات الأمان التي تم أستنباطها من حادثي تشيرنوبل وفوكوشيما وغيرهما. نحن ندخل عصر الإستخدام السلمي من حيث أنتهي الأخرون. كنا روادا في بداية الخمسينات من القرن الماضي عندما أنشئت حكومة الثورة أول مفاعل بحثي في إنشاص. حقيقة هو رضيع صغير، قدرته نصف ميحاوات، ولكنه كان يمثل البداية. غير أننا الأن وجدنا أنه كان البداية والنهاية معا. سعر الكهرباء المنتجة نوويا هو سعر منافس بلاشك، كما أنها طاقة نظيفة لا تنتج غاز ثاني أكسيد الكربون السيئ السمعة. من مصلحة مصر أن تنوع مصادر الطاقة ولا تلقي العبئ كاملا علي النفط ومشتقاتة كما هو حادث الأن. أنني علي يقين أننا لن نبني المفاعل ونديره فقط، بل أنني علي يقين أن الشباب المصري سينجح في توفير الوقود النووي اللازم سواء بلإستخلاصه من الفوسفات أو من جرانيتات الجتار والمسكات والعرضية وأبو رشيد وغيرها. نحتاج فقط وضوح الرؤية ونظام إداري فعال.