يجلس القرفصاء على أحد أرصفة ميدان المطرية متكئاً على عمود إنارة، واضعاً أمامه أدواته الحديدية التى يستخدمها فى الهدم، شارد البال يفكر فى كيفية تدبير تكاليف زواج ابنته وتوفير ثمن علاج زوجته المريضة بفيروس سى، فى نفس الوقت عيناه زائغتان على كل شخص يمر أمامه علَّه يطلبه فى عمل. «أبوشتا محمود»، رغم تجاوزه الثمانين عاماً، فإنه ما زال يعمل «عتالاً»، خاصة بعدما فشل فى امتهان مهنة أخرى؛ لتظل «العتالة» رفيقته طوال 50 عاماً مضت. قدم الرجل الثمانينى إلى القاهرة، تاركاً مسقط رأسه بمركز قوص بقنا، ليبحث عن لقمة عيشه، مفضلاً إياها على العمل بالفلاحة، معللاً ذلك بعدم وجود جدوى من العمل بها ما دام لا يملك أرضاً، يقول: «كل اللى بطلبه من الدنيا الستر وإن أولادى ياكلوا بالحلال». بالرغم من ظهور علامات كبر السن على «أبوشتا»، فيداه ترتعشان ولسانه يتلعثم فى الحديث كما يعانى ضعفاً فى النظر، إلا أنه لا يزال متمسكاً بمهنته التى تحتاج لقُوى بدنية تساعده على الهدم وتكسير الخرسانة متحدثاً عن مهنته بفخر: «قضيت عمرى كله جنب العمود ده، أرزقى على باب الله، آجى كل يوم الصبح واستنى أى حد يطلبنى للشغل، ويوميتى على حسب ما ربنا يرزقنى، مرة 30 ومرة 50 جنيه». ويضيف، وهو يضغط بإحدى أصابعه على الورم الموجود بيده اليمنى التى تشققت لتسجل كل لحظة شقاء عاشها على مدار خمسين عاماً: «بقى لى خمس أيام ما دخلش جيبى جنيه واحد». يرى «أبوشتا» أن الأوضاع قبل ثورة 25 يناير كانت أفضل: «هى الناس بعد الثورة لاقية تاكل علشان تبنى وتهد؟ حالنا واقف من بعد الثورة، بندخَّل الجنيه بالعافية، يوم نشتغل وعشرة لأ». «أبوشتا» أب لابنتين و3 أولاد، يعيشون فوق سطح منزل بمنطقة عرب الحصن بعين شمس: «ولادى برضه أرزقية على باب الله، اللى بيشتغل سباك واللى نجار، وكل أمنيتى أجوّز بناتى وألاقى لقمة عيش ناكلها». تدمع عيناه عندما يتذكر أن خطيب ابنته تركها لطول فترة الخطوبة، لعدم قدرته على تدبير نفقات زواجها، ويقول متنهداً: «يا ريت البلد تتحسن، أى رئيس يمسكنا، المهم نلاقى لقمة ناكلها، وندفع إيجار المكان اللى بيلمنا، كان بيمر علينا شهر من غير ما نشتغل بسبب الأحداث والمظاهرات فى فترة حكم مرسى، ما خدناش منها غير وقف حالنا، ما كانش فيه شغل خالص». يصمت «أبوشتا» عن الحديث بعدما قاطعه زميله سيد عباد جمعة، الذى يقتسم معه الجلوس تحت عمود الإنارة ليسأله عن سيجارة قائلاً: «معاك سيجارة يا حاج؟»، ليرد عليه «أبوشتا»: «هو أنا اشتغلت من 5 أيام علشان يكون معايا تمن سيجارة؟»، وهو ما استقبله «عباد» متهكماً: «ده أنا شربت كوباية الشاى النهارده شكك». سيد جمعة من قرية الحمى من مركز منفلوط بأسيوط، أربعينى العمر، ترك أسرته منذ 3 سنوات ليعمل بالقاهرة، أملاً فى رزق أوفر هنا: «أنا بنام فى أى مكان، بنام فى قهوة أو أى جامع على حسب ما ألاقى، أنا بوفر لقمة عيشى بالعافية، هروح أدفعها فى إيجار أوضة». تتلخص أمنيات «عباد» فى إيجاد مأوى له فى القاهرة وتوفير قوت لأولاده: «ساعات صاحب القهوة مش بيرضى يبيتنى عنده، نفسى أشتغل علشان أأجر أى أوضة وأبات فيها، ونفسى ربنا يقدرنى وأقدر أكمل تعليم ابنى الوحيد، وأجوز بناتى». اتفق «جمعة» مع «أبوشتا» فى قلة العمل من بعد ثورة 25 يناير: «مفيش شغل خالص من بعد الثورة، حال البلد وقف والناس ما بقاش معاها فلوس»، مستطرداً حديثه والحزن يملأ وجهه: «3 شهور ما ببعتش فلوس لأولادى، ومراتى سالفة لغاية دلوقتى ألفين جنيه، علشان تصرف عليهم، ما ببعتش ولا مليم ليهم، ومش قادر أزورهم وأنا إيد ورا وإيد قدام». «جمعة» يعلق تحقيق آماله البسيطة على الرئيس الجديد: «يا ريت الرئيس الجديد يصلح حال البلد ويطورها، لو فضلنا على الحال ده هنشحت بعد كده».