من القاهرة إلى المنصورة، وعلى جانبى الطريق، سوف تتعرف على ما تبقى من مصر!. بقع باهتة فوق وجه، كان جميلاً ورائعاً فى الماضى، والآن قد بلغ منه التعب والضعف والانهيار منتهاه، فلا تكاد وسط التراب والفوضى والزحام الخانق أن تتبين البشر من الحجر!.. إهمال ودمار عشرات السنين أصاب كل شىء وحول ملايين المصريين إلى كائنات تسعى فقط للحصول على أبسط عناصر الحياة.. الماء النظيف والكهرباء والخبز وطريق آمن لا يموت الإنسان فيه مجاناً فى حادث مجنون! وأنت إذا خرجت من القاهرة إلى أى مكان فى مصر سوف تصطدم بحقيقة «اللا دولة»، واللا نظام، واللا طرق، واللا تعليم، واللا علاج، وإذا كان فى العاصمة شىء من كل هذا، فإن خارجها لا يوجد شىء!.. هناك فقط محاولات متناثرة وجهود فردية ومقاتلون فى الفراغ يحاربون جيوشاً من الفاسدين والبلطجية معدومى الضمير الذين تربوا فى عصر مبارك وترعرعوا وراجت بضائعهم بشكل خرافى فى زمن الإخوان! والطريق من القاهرة إلى المنصورة، ومن القاهرة إلى أى مكان فى مصر هو بالتحديد ما يجب أن يتعرف على كوارثه ومآسيه الرجل الذى سيأخذ على عاتقه مهمة وقف هذا الدمار، وأقول (وقف)، وليس إصلاح ما تم تدميره، لأن أى عملية إصلاح جذرى سوف تستغرق وقتاً لن تحتمله، وربما لن تراه أجيال عديدة مقبلة! وأى مرشح لرئاسة هذا البلد، يكذب إذا قال لك إنه يعرف ماذا يريد الناس، أو أنه يعرف أولوياتهم، لأن الناس فى الواقع يريدون كل شىء، ومن طول الإهمال وقسوة السنين وكثرة التعود على اللجوء لله، والاحتماء بالتدين الظاهرى، فإنهم يكتفون بالرضاء بقضاء الله، مع أنهم فى الحقيقة ضحايا قضاء أنظمة الفساد وعهود الظلم! والناس خارج العاصمة هم خارج الزمن، لا يذهبون للمستشفيات، لأنهم لا يتحملون فاتورة العلاج، وربما لأن الموت خارجها أقل قسوة! وقليل من المسئولين من ذوى الضمير يدركون أن قلب البلد الموجوع يحتاج حلولاً غير تقليدية، حلولاً إنسانية ويتطلب شجاعة لا تتوفر إلا لأصحاب الضمائر الحية والأيدى النظيفة، ومن هؤلاء عرفت وسمعت وعايشت فى مدينة المنصورة تجربة رجلين استثنائيين يعملان فى أقسى الظروف! أولهما اللواء عمر الشوادفى، محافظ الدقهلية، المثقف الوطنى، عاشق التاريخ والجغرافيا، وأشهر أبطال الحرب ضد عصابات مافيا أراضى الدولة، رجل ينزل من سيارته لينظم المرور، ويتحرك بسرعة لينزع فتيل فتنة بين عائلتين كادت تشعل حرباً أهلية، ويواجه بشجاعة تلالاً متراكمة من فساد الذمم وكبار المرتشين. «الشوادفى» نموذج لرجل يعرف أن وقف الانهيار يبدأ من المنبع، وللأسف فإن المنبع ممتلئ بالأسماك المتوحشة والحيتان الكبيرة. الرجل الثانى هو د. محمد ياقوت، من أبناء جيل ما بعد العالم الكبير د. محمد غنيم، نموذج للإنسانية عندما تختلط بالعلم وحب البلد، مستشفاه فى المنصورة يقول كل يوم بنظامه الدقيق ونظافته الفائقة، وروح الفريق والإخلاص فيه أن هناك أملاً، وعملاً حقيقياً يجرى فى هدوء، بعيداً عن صخب القاهرة، بقعة ضوء صغيرة وسط العتمة، وفى قلب الدلتا التى تنتظر مثلها مثل مصر كلها من يراها على حقيقتها، لا من يراها على شاشة التليفزيون. إن برامج مرشحى الرئاسة، لا بد أن يكتبها هؤلاء البعيدون المبعدون عن خريطة مصر المستقبل، والطريق إلى كرسى الرئاسة لا بد أن يبدأ من هنا، من فوق طرق الموت بطول مصر وعرضها، من قرى ونجوع إهمال السنين، من بيوت طال صبرها لماء نظيف وبيئة خالية من الأمراض، والذى يريد أن يحتل المنصب الرفيع، فعليه أن يدرك أن هناك ملايين الصابرين الذين نفد صبرهم ولن يتحملوا مزيداً من الأكاذيب! إن مصر التى لا تراها يا سيادة الرئيس المحتمل، لم تعد تحتمل، والعدالة الاجتماعية التى ترفع شعارها، هى هنا نوع من الرفاهية، لا يعرفه من يطالبون فقط بالحق فى الحياة.