علي بعد 150 كيلومتر جنوب غرب القاهرة، أكتسب وادي صغير في وسط صحراء الفيوم شهرة واسعة، تجاوزت حدود الدولة وذاع صيته في كافة الأوساط العلمية العالمية. عرف هذا الوادي النائي البعيد باسم وادي الحيتان. ولأهميته العلمية البالغة، اَعلن بالقانون 102 لعام 1983، محمية طبيعية، وفي عام 1997 ضم إليه وادي الريان ليكون أحد المحميات الطبيعية الكبيرة بالدولة، ذات أعلي معدلات للزيارة بلغت 150 الف زائر سنوياً، وهو العدد الأكبر للزائرين بين كافة المحميات في الدولة. ولكن لعظم شأن الوادي علمياً، فلقد أعلن في يوليو 2005 موقعاً للتراث الإنساني، بمعني أنه أثر لا يهم مصر وحدها، بل يكترث العالم بالحفاظ عليه لأهمية وندرة ما به من دلائل علي تطور الحياة علي سطح الكوكب. حتي أنه يجرم مرور السيارات به أو العبث بأي من محتوياته. وللتدليل علي جدية الأمر، حدث في عام 2007 ، أن دبلوماسيا بلجيكيا تجول بسيارته ذات الدفع الرباعي في أرجاء الوادي، فتم تغريمه 320 الف دولار، علي الرغم من حرص السفارة البلجيكية على إعلان أن محتويات الوادي لم تصاب بأي ضرر، لإظهار مدي إحترام هذا التراث الإنساني الهام. حتي ندرك أهمية الوادي، والتي أهلته ليصبح موقعا للتراث الإنساني، علينا أن نتصور كيف كان هذا الوادي في العصر الأيوسن الأوسط، منذ حوالي 45 مليون سنة. كانت الفيوم موضعا لدلتا كبيرة، إزدهرت بها الحياة البرية وسط غابات وزراعات كثيفة. عاش علي أطراف هذه الدلتا حيوانات عديدة مثل الفيل المصري القديم والتماسيح العملاقة وأنواع عدة من السلاحف وفرس النهر والقردة العليا وغيرها الكثير من الحيوانات ، والتي لم تكن جميعها كبيرة الحجم ، ولكن التنوع كان هو الصفة الأقرب للواقع. النهر الذي كان يغذي هذه الدلتا كان ينبع من الشرق، من الصحراء الشرقية المصرية، أي أنه ياتي من الشرق ليصب في الغرب. بذلك لم يكن مثل النيل والذي ياتي من الجنوب ليصب في الشمال، ففي هذا الزمن لم يكن النيل قد خلق بعد. كانت هذه الدلتا، تصب في بحر يعرف باسم بحر التيثس، والذي تعرف بقاياه الأن، بعد إنحساره، باسم البحر المتوسط. كان الموقع الذي يشغله وادي الريان جزء من البحر، ولكنه كان علي صورة خليج يتمتع بالمياه الدافئة الغنية بالمواد الغذائية الأتيه من الدلتا المجاورة. ازدهرت الحياة البحرية لتشمل أعدادا كبيرة وتنوع للأسماك والسلاحف والدلافين، وكانت تزوره قوافل الحيتان العملاقة للتزاوج أو للتمتع بالظروف الحياتية المثالية في هذا الخليج. هذه الحيتان هي الجد الأكبر والذي تطورت منها الحيتان التي نعرفها الأن، ولكنها كانت أكبر حجما حتي أن طول الحوت يتعدي العشرين متر. صنف المتخصصون هذه الحيتان بأنها تتبع عائلة منقرضة أسمها الباسيلوسورس. أكثر ما تتميز به أن زعانفها الأمامية تشبه القدم ذات الأصابع الخمس. كان ذلك دليل بالغ الأهمية على أن الحيتان قد تطورت من كائنات برية كانت تمشي علي اليابسة بأقدامها. لم يكن القدم ذو الأصابع الخمس هو الدليل الأوحد، ولكنه الأهم. ولكن لماذا قتلت هذه الحيتان، حتي أن عدد الهياكل التي تم رصدها في وادي الحيتان يقترب من 400 هيكل. أغلبها محفوظ بطريقة جيدة. القليل منها هو المكشوف بالكامل علي سطح الأرض، بينما أكثرها مازال يرقد جزئيا أو كليا تحت الصخور ولكن تم تحديد أماكنها وتسجيلها علي الخرائط والصور الفضائية، لتسهيل عملية المتابعة. ولقد تم رصد هياكل الحيتان لأول مرة منذ أكثر من 110 عام، علي يد جيولوجيون أجانب. أعود فأقول أننا إذا أردنا معرفة كيف ماتت هذه الكائنات العملاقة، وكيف تم حفظ هياكلها، فعلينا النظر لوادي الحيتان كجزء من دلتا الفيوم القديمة والبحر وخليجه من تحتها ، حتي ندرك ما حدث. في جبل قطراني بالفيوم، توجد هياكل لحيوانات قارية متنوعة ومحفوظة أيضا بطريقة جيدة. تم جمع عدد كبير جدا من هياكل التماسيح العملاقة وفرس النهر والفيل المصري القديم (الأرثينوسوريم) وأنواع عدة من الزلاحف. وفقا لإتفاقية مبرمة بين المساحة الجيولوجية المصرية والجامعات والهيئات الأمريكية التي ترعي وتمول التنقيب عن هذه الهياكل، يتم حفظ الهيكل الأفضل في المتحف الجيولوجي المصري، وتصدر النسخة المكررة إلي أمريكا. إذا كان الهيكل مفرداً، وليس له نسخة أخري، فإنة وفقا للإتفاقية، يبقي في مصر. هذه الهياكل للحيوانات البرية كانت تعيش متزامنة مع الحيتان في الخليج الذي يعرف الأن باسم وادي الحيتان، وقتلت جميعها في نفس التوقيت. إذا هناك حدث هام قد أدي إلي القتل الجماعي لما يعيش في الخليج وأطرف الدلتا معاً وفي ذات الوقت. لدينا شواهد مؤكدة أن الحيتان بعد موتها ردمت بالأتربة والرمال والتي تحولت إلي طين لوجود ماء الخليج. البرهان هو أن نوع من الأحياء الحفارة، كانت تغوص في الطين لتأكل من أجسام الحيتان الميتة. ثقوب حفر هذه الكائنات متحفر وعلي درجة عالية جدا من الحفظ والوضوح، ويستطيع الزائر لوادي الحيتان، وإن كان غير متخصص أن يرصدها أينما وجدت الهياكل. هذا يعني أن أجسام الحيتان كانت صالحة لغذاء هذه الأحياء الحفارة حتي بعد دفنها، مما يدل على أن الدفن كان سريعاً، بل يمكن القول أن الدفن كان هو نفسه سبب الوفاه. عندما احاول تصور المشهد كما حدث منذ 45 مليون سنة، أتصوره نتيجة تغير مناخي حاد وسريع صاحبه عواصف ترابية ورملية شديدة، أدت إلي ردم جزء من الخليج بما فيه من حيوانات، من بينها الحيتان، والتي لم يشفع لها كبر حجمها وقوتها العضلية. لقد رصدت بعض الهياكل في وضع متقلص دليل علي محاولات للخلاص، كما وجد في بطن بعض الحيتان بقايا مما كانت تأكله متحفراً. وهذا دليل علي سرعة الحدث. وكما ردمت الحيتان في الخليج، ردمت أيضا الأحياء البرية علي أطراف دلتا الفيوم القديمة، والتي حفظت فيما نعرفه الأن بأسم جبل القطراني. إننا بالقطع لم نكن شاهدين علي ما حدث، ولكن كما يقول العرب " البعرة تدل علي البعير والجرة تدل علي المسير". توجد أدلة كثيرة علي أن التغير المناخي لم يكن فقط عواصف ترابية وقتل جماعي للأحياء علي اليابسة وفي البحر معاً، ولكن تزامن مع كل ذلك نشاط حراري صاحبة تكوين معادن غير إعتيادية، ولكن هذا شأن أخر وحديث لاحق. هل ما حدث في وادي الحيتان وجبل القطراني هو إنقراض جماعي للأحياء؟ في زعمي أنه لم يكن إنقراضأً بالمعني المتعارف علية، مثل ما حدث للديناصورات، وإلا لما تطورت الحيتان في البحر والأفيال علي اليابسة للشكل الذي نعرفه الأن. إن ما حدث كان شأن جلل ولكن في مناطق جغرافية محددة. توجد نماذج لما حدث عندنا في مناطق أخري من العالم. والمضاهاه وحدها هي التي تستطيع تقدير حدود الحدث علي سطح الكوكب. وهذا ما ينكب عليه علماء الجيولوجيا ومنذ عقود.