مرة أخرى يتجمع عشاق السينما وهواة الأفلام والمهووسون بعالم النجوم والأضواء والباحثون عن الشهرة بأى ثمن على شاطئ الكروازيت الشهير فى «كان»، للاحتفال بمهرجانها الكبير الذى يحتفل بدوره بالدورة الخامسة والستين هذا العام، سن التقاعد الرسمية فى أوروبا، غير أن المهرجان العريق يرفض أن يعترف بمرور الزمن، بل ويميل دائما إلى تجديد شبابه، بالبحث عن الجديد المثير فى عالم السينما، واستقطاب السينمائيين الشباب من شتى أنحاء العالم، بأفلامهم التى تتنافس على نيل شرف العرض فى «كان». ولكن ما الذى يجعل «كان» مهرجانا مرموقا يتطلع إليه الجميع؟ أظن أن سحر المكان عامل مهم للغاية.. شاطئ الريفييرا الفرنسية -أو الكوت دازور- فى تلك البقعة التى كانت أساسا قرية لصيادى الأسماك، قبل أن ينتبه إليها المسئولون من محبى الفن السابع والمغرمين بالاحتفاء به، يقررون إقامة هذا المهرجان الذى ذاع صيته، وظهر فى الأصل لمواجهة مهرجان فينيسيا فى إيطاليا الذى أسسه ديكتاتور إيطاليا الفاشية «موسولينى». وقد حاول مهرجان «كان» ونجح فى أن يرث عرش «معارض» السينما من معرض فينيسيا السينمائى (أو الموسترا) كما أطلق عليه من البداية، تيمنا بمعارض الفن التشكيلى، وهو ما يشير إلى أن الاهتمام بعرض الأفلام وتخصيص جوائز لأفضلها، من خلال إقامة المهرجانات السينمائية، جاء أساسا كعمل من أعمال الفن والثقافة والتذوق. الفن والسوق مهرجان «كان» هو المهرجان الأول الذى يتجه إلى تحويل فكرة المهرجان «الفنى» إلى «سوق» للأفلام، للبيع والشراء، إلى ساحة لعقد الصفقات، صفقات تمويل أفلام جديدة، أو استكمال أفلام شرع أصحابها فى تنفيذها ولم ينتهوا منها بعدُ، جاءوا إلى «الكروازيت» بحثا عن تمويل «العمالقة». من العمالقة إذن؟ المقصود بالطبع كبار منتجى السينما الأمريكية، فمن يحصل على تمويل أمريكى من الشركات الكبرى يضمن أن يصبح فيلمه فى كل مكان، أى يضمن توزيعا وتسويقا عالميا يصنع له اسما فى عالم السينما، تماما كما يضمن ذلك الذين يحصلون على السعفة الذهبية فى مهرجان كان، وهى الجائزة الكبرى الأشهر فى العالم، فرغم أنها ذات قيمة رمزية، ولا يوازيها منح الفائز بها أى قيمة مالية عن فوز فيلمه، كما يفعل الكثير من المهرجانات، فإن قيمتها توازى ملايين الدولارات لأنها تفتح الطريق أمام تسويق الفيلم على النطاق الأوروبى على الأقل، إن لم يكن العالمى والأمريكى بوجه خاص، أى النفاذ إلى أكبر أسواق السينما فى العالم (أكثر من 38 ألف دار للعرض)! ومهرجان كان هو الأضخم؛ ففى كل يوم يدور فى ماكينات العرض حوالى 100 فيلم فيما يقرب من 500 عرض سينمائى.. صحيح أن عدد أفلام المهرجان المعروضة فى البرنامج الرسمى لا تتجاوز 50 فيلما، وتصل إلى ثمانين إذا ما أضفنا برنامج كلاسيكيات السينما والأفلام القصيرة وأفلام العروض الخاصة، لكن السوق الدولية فى كان تعرض أكثر من 600 فيلم من شتى أنحاء العالم، ويوجد بالمدينة ما لا يقل عن 50 - 60 قاعة للعرض السينمائى، والمدينة كلها تتحول إلى حالة «مهرجانية»، وإلى احتفال بفن السينما. المهرجان أيضا يعد بوابة السينما إلى أوروبا، فمن كان تنتقل الأفلام الجديدة (خاصة الأمريكية) إلى أسواق التوزيع الأوروبية، بل وتنتقل الأفلام الأوروبية وغيرها إلى السوق الأمريكية، لذلك فالمنتجون الأمريكيون ينفقون ببذخ على «كان» وعلى فعالياته الموازية وحفلاته وسهراته التى لا تنتهى. وتصدر فى كان يوميا نحو ثمانى مطبوعات بالإنجليزية مثل «فاريتى» و«سكرين إنترناشيونال» و«هوليوود ريبورتر»، ومنها ما يصدر بالطبع بالفرنسية فقط مثل مجلة «لو فيلم فرانسيه». الأفلام وتضم المسابقة الرسمية 22 فيلما منها 3 أفلام فرنسية. سيكون المخرج السينمائى المصرى الموهوب يسرى نصر الله هذا العام فى قلب مسابقة المهرجان بفيلمه الجديد «بعد الموقعة» الذى يتناول أحداث الثورة المصرية فى 2011 من خلال «رؤية» فنية درامية خاصة، قد تثير الكثير من التساؤلات. يسرى يعيد بفيلمه الجديد وضع السينما المصرية على خريطة المهرجانات السينمائية الكبرى، بعد أن نجح فى اختراق مسابقة «كان» بعد أكثر من 15 عاما من المحاولات غير الناجحة، وسيحضر يسرى المهرجان مع أبطال فيلمه، وسنحرص على أن نقدم لقراء هذه الصحيفة انطباعاتنا عن الفيلم عند استقباله فى المهرجان. أما المخرج الرومانى كريستيان مونجيو، الذى هز المهرجان فى 2007، وخرج من المسابقة بالسعفة الذهبية عن فيلمه البديع «أربعة أشهر.. ثلاثة أسابيع.. ويومان» فيعود إلى المسابقة هذا العام بفيلمه الجديد «وراء التلال» الذى يستند إلى قصة واقعية حول العلاقة بين صديقتين تلتقيان مجددا بعد غياب لسنوات، أصبحت خلالها إحداهما راهبة، وهاجرت الأخرى إلى ألمانيا. ويعود أحد مشاهير «كان»، المخرج البريطانى الكبير كن لوتش، أيضا، بفيلمه الجديد «حصة الملاك»، وهذه هى المرة الحادية عشرة التى يشارك فيها كن لوتش فى مهرجان كان، وهو ما يجعله المخرج الأكثر تفضيلا لدى إدارة «كان».. لكنه رغم ذلك لم يحصل إلا بمشقة، مرة واحدة، على السعفة الذهبية عن فيلمه السياسى الكلاسيكى «الريح التى هزت الشعير» (عام 2006). أما من فرنسا فيشارك المخرج نمساوى الأصل مايكل هانيكه، الذى يعمل عادة فى إطار السينما الفرنسية، بفيلمه الجديد «حب»، وكان المخرج هانيكه قد حصل على السعفة الذهبية قبل عامين فى مهرجان كان بفيلمه «الشريط الأبيض» ويراهن كثيرون على أنه قد يفعلها مرة أخرى هذا العام. أيضا جوليت بينوش تقوم ببطولة الفيلم الجديد للمخرج الكندى ديفيد كروننبرج «كوزموبوليس». أما الإيرانى الشهير عباس كياروستامى فيعود إلى كان بعد فيلمه «نسخة طبق الأصل» الذى عُرض بالمسابقة قبل عامين، بفيلم جديد هو «مثل رجل غارق فى الحب»، وقد اختار هذه المرة أن يجعل أحداث فيلمه تدور فى اليابان، تماما كما كان فيلمه السابق يدور فى إيطاليا، أى أنه هجر إيران، وأصبح منطلقا فى التعبير عن مشاكل خارج نطاق المشاكل المرتبطة بالمجتمع الإيرانى، فهل هو موقف هروبى، أم يعكس نوعا من الاحتجاج على «الحالة الإيرانية»، أم أنه اختيار لتحقيق ما يسمى «العالمية» من خلال أفكار إنسانية مفتوحة لا تحدها الحدود؟ لا نعرف.. لكننا سنرى. عملاق الموجة الجديدة المخرج الفرنسى الكبير آلان رينيه، صاحب التحفة الفنية «هيروشيما حبيبى».. والآن أقول إن رينيه، البالغ من العمر 89 عاما، وهو مع جودار الأسطورى، آخر من بقيا على قيد الحياة من جيل الموجة الجديدة الفرنسية (مع أنييس فاردا بالطبع)، يعود إلى مهرجان كان بفيلمه «أنت لم تر شيئا بعد» الذى يدور حول مجموعة من الممثلين يجتمعون فى منزل مؤلف مسرحى توفى مؤخرا لقراءة وصيته. لم يحصل آلان رينيه أبدا على السعفة الذهبية، بل حصل على جائزة لجنة التحكيم الخاصة عام 1980 عن فيلمه «عمى الأمريكى» ثم حصل على تقدير عن مجمل إسهامه فى عالم السينما، وهو يعود اليوم ربما بآخر أفلامه، الذى يحمل عنوان العبارة الأولى التى كان يرددها البطل للبطلة فى المشهد الأول من فيلم «هيروشيما حبيبى». المنافسة ستكون شديدة فى مسابقة كان هذا العام. وسوف يتعين على فيلم يسرى نصر الله أن يواجه هؤلاء العمالقة، ويخرج بجائزة ما، ولكن المهرجانات السينمائية ليست مثل مباريات كرة القدم، فعدم الحصول على جائزة لا يعنى أن الفيلم «هزم»، أو أن الآخر الفائز «انتصر»، بل إن المسألة تقديرية تعود لمحصلة أذواق مجموعة من السينمائيين من أعضاء لجنة التحكيم التى يترأسها هذا العام الإيطالى نانى موريتى الذى عرض له فى مسابقة العام الماضى الفيلم الكوميدى الانتقادى اللاذع «أصبح لدينا بابا الآن» والذى لم يفز هو أصلا بأية جائزة رغم طرافة فكرته ومعالجته الجيدة. وإذا كانت «الكورة أجوان» أو «الكرة أهداف»، فجوائز المهرجانات مسألة أذواق.. وأحيانا أيضا «حسابات». وسوف أعود إليكم فى «يوميات من مهرجان كان» وأحاول أن أجعلها يوميات عن جد، أى أن تكون يومية متجددة، مع هوامش المهرجان التى تعلق على كل ما أقابله يوما بيوم خلال 12 يوما هى عمر ذلك الزحام الذى سيمضى ويطوى صفحة أخرى من المهرجان.. ومن العمر.. أليس كذلك؟!