تختلف البيولوجيا عن الفيزياء في عدة أمور، أهمها أن قوانين البيولوجيا معقدة ومتداخلة ويحتاج فهمها إلى نظرة تكاملية شاملة. فلا توجد في البيولوجيا نظريات منفردة كاملة. حتى نظرية التطورالرصينة التي تمثل أساس علم البيولوجيا الحديث، لا تمدنا سوى بأطر عامة غير خاضعة لضوابط الحساب الدقيقة. وبالتالي فالقدرة التنبؤية لنظريات البيولوجيا محدودة للغاية، بحيث لا يمكن الإعتماد الكامل على المعادلات النظرية أو برامج الحاسوب في دراسة الظواهر البيولوجية. أما نظريات الفيزياء كنظرية الجاذبية أو نظرية الكم فهي إختزالية بسيطة، شديدة الدقة، و ذات قدرة تنبؤية جبارة. هذا ما تثبته النتائج التطبيقية، ففي حين حطت بنا نظريات الفيزياء على القمر والمريخ وأمدتنا باكتشافات هائلة كالكهرباء والإتصالات الاسكلية في زمن قياسي نسبيًا، لا تزال البيولوجيا عاجزة عن التنبؤ الدقيق بتحور فيروس مقاوم للعقاقير أو بنواتج بذور مهندسة وراثيا أو حتى باحتمالات إصابتنا بمرض ما. يشير إنحراف التطبيق عن النظرية في الفيزياء إلى قصور في إجراء التجربة، فالنظرية هي الأساس وهي صحيحة دائما ( الأجسام تسقط دائما إلى أسفل). حتي رُوي عن أينشتين قوله أن الإله قد يتسامح في أمور كثيرة إلا أن تخترق قوانين الفيزياء. أما البيولوجيا فلا تعتد إلا بالواقع الملموس الذي تلطقته المشاهدات المباشرة. وما النظريات بحسب علماء الأحياء إلا انعكاسات مغبشة ووصف تقريبي للواقع. أعتقد أن فهم الظواهر الإجتماعية هو أقرب إلى فهم البيولوجيا منه إلى فهم الفيزياء، لما يتطلبه من نظرة شمولية متكاملة تأخذ فى الإعتبار تعدد روافد الظاهرة الإجتماعية وصعوبة التنبؤ النظري بتوابعها، بمعزل عن التفاصيل الدقيقة لإشتباكات الواقع اليومي وإحداثياته المتغيرة. يبدو لى كمراقب بعيد، أن الدكتور زويل (وهو أستاذ الفيزياء بجامعة كالتك بكاليفورنيا) منذ أن دشن مشروعه القومي، وهي ينتهج نهج الفيزياء الإختزالى المباشر، المؤمن برصانة النظرية، وليس نهج البيولوجيا التكاملي القائم على الخبرة المباشرة والتجريب. للبيولوجيا منطقها الخاص حين تخبرنا بأن الجسد العليل يرفض الأجسام الدخيلة عليه، وإن كانت قلبا عفيا أو كلية سليمة يستبدل بها أعضاءه التالفة. تقررالبيولوجيا طرد الجسم الغريب أيًا كانت قيمته، ولو نفق الجسد وزهقت الروح. تطور منطق البيولوجيا بضغوطٍ دُمغت على جيناتنا عبر ملايين السنين، نقشتها تراكمات التجربة المباشرة، تنذر بأن الأجسام الغريبة إما سامة مميتة أو ضارة ممرضة. وهذا منطق سليم بشكل عام ولكنه غير بصير في حالة زراعة الأعضاء. أما الفيزياء المبصرة فتخبرنا بأن إستبدال بطارية تالفة ببطارية جديدة تستعيد كفاءة الجهاز المعطل، دون قيد أو شرط ولا يوجد ضرورة "تآلف" بين البطارية وباقي عناصر الدائرة. يقبع الجسد المصري العلمي في غرفة العناية المركزة منذ زمن في حالة فشل كُلوي. ينتظر "متبرعًا" يمده بالكُلْية التي ستعيد إليه الحياة وتنقي دمه من السموم الفتاكة التى أفسدت أعضاءه وختمت على عقله. عرض الدكتور زويل منذ أكثر من عشرين عاما التبرع بأحدى "كُلْيتيه" لإنقاذ هذا الجسد ولكن قوبل عرضه بالرفض من مدير المستشفي الذي لم يكن يطمئن لزويل. حتى جاءت ثورة 25 يناير، وأقنع بعض الجراحين (رؤساء وزراء سابقين) ولأغراض سياسية، الدكتور زويل بأن الوقت مناسب لزراعة الكُلْية فورا، فقد تم القبض على مدير المستشفي المهمل، والمريض مستسلم ومسجى على الطاولة، وغرفة العمليات جاهزة وقد تكون تلك هي الفرصة الأخيرة لإنقاذه. لم يتردد زويل وترك كُلْيته للجراحين بهدف إنقاذ المريض المحتضر. لم يتوقع زويل بحسابات الفيزياء أن الجسد المصري بغريزة البقاء البيولوجية قد يرى في مشروعه جسم غريب يجب مقاومته وطرده. كما أنه لم يتشكك في كفاءة الجراحين المتعجلين الذين تركوا أجزاءًا عفية من الكُلْية الأصلية في مكانها، موصولة بالكلية المزروعة، وأداروا جراحة غشيمة قاصرة خلفت مشكلة معقدة تنطوي على وجود كليتين غير متكاملتين تتصارعان داخل جسم المريض. إن نجاح زراعات الأعضاء منوط بإحدى أمرين. إما أن تكون هناك قوة جبارة تثبط هجوم جهاز المناعة على الجسم المزروع، مثل القوة السياسية التى وفرها الرئيس السادات شخصيا وتبنتها الدولة لمشروع الدكتور محمد غنيم في المنصورة. أو أن يتخفى العضو المزروع بعيدا عن أنظار جهاز المناعة على نحو لا يبدو معه غريبا (مشروع الدكتور مجدي يعقوب نموذجا). نجحت تجربة الطبيبين غنيم ويعقوب المتأثرة بأفكار البيولوجيا التكاملية، أما زويل فتعثرت تجربته حين ركن بشدة إلى منطق الفيزياء الإختزالي. إختار غنيم ويعقوب سباحة البط الهادئة تماما على السطح، مع حركة أقدام دائبة تحت الماء. أما زويل فوجد نفسه يسبح في أنواء متقلبة، تتلاطمه أمواج السياسة الهوجاء ورياح الإعلام العاتية. وفي هذا كله تتخبط الدولة المصرية بلا هدى ولا كتابٍ منير. لا أحسب أن للدولة حتى الآن رؤية ثاقبة في قضية البحث العلمي، وهي التي تسير على وجلٍ، مكتفية بتسيير الأعمال المكتبية والمتابعة الأرشيفية للنزاعات القانونية. إن طموحات الشعب المصري الكبيرة المشفوعة بثورتين مخضبتين بدماء شبابه يجب ألا تظل رهينة لذهنية الركون إلى ثرثرة الصراعات اليومية دون مكابدة وعثاء البحث عن الحلول الجذرية المحصنة بنفاذ القانون. لن تُخفي مساحيق المؤتمرات الإحتفالية والتصريحات الإعلامية الوجه الشاحب للبحث العلمي في مصر والذي يحتاج إلى إرادة سياسية فولاذية وإدارة حكيمة متجردة. نريد مكاشفة واضحة لما آلت إليه أوضاع البحث العلمي في مصر و رؤية جلية لخطة المستقبل، متضمنة المشاريع القومية والجامعات الحكومية والأهلية ومراكز البحوث. فلا تزال جموع الشباب في مصر تبحث عن حقها في مؤسسات تعليمية وبحثية تواكب العصر، تنير لها الطريق، وتعصمها من الزلل، فلا تجدها وسط فخاخ التطرف وأوكارالسوقية. لم تفشل مدينة زويل إذا، ولكنها لا تزال عالقة بين سماء كاليفورنيا و صحراء الشيخ زايد، تبحث عن موقع متزنٍ بين البيولوجيا والفيزياء .. بين العلم والسياسة .. بين الإنجاز والدعاية. * أستاذ الفيزياء الحيوية المساعد بجامعتي القاهرة وجنوب إلينوي