إن أكثر ما تعاني منه مصر، حتي قبل الفقر والجهل، هو غياب التخطيط المنظم. والنموذج الصارخ الذي يؤكد هذا، أننا نعطي أذانا صاغية لدعوة إنشاء محاور للتنمية، بينما لم نستطع أن ننمي ما نملكة من محاور شيدت منذ أكثر من قرن كامل، وما زالت تنتظر العقول الواعية لتخطيط واقعي لتنمية حقيقية. هل تعلم عزيزي القارئ أن المركز الصناعي الناجح لصناعة صخور الزينة وصخور البناء، الموجود في طريق حلوان والذي يعرف بأسم شق الثعبان، قد بداء بمجهود أفراد وليس الحكومة، وعندما ظهر نجاحه، تدخلت الحكومة لتفرض هيبة الدولة وتحصل الضرائب. هذا المشروع الناجح جدا، هو في إعتقادي نموذج واضح لسوء الإدارة. إن الصخور التي يتم تشغيلها في موقع شق الثعبان تم جلبها من منطقة الجلالة علي خليج السويس أو شمال الصحراء الشرقية أو إستيراد أنواع خاصة من صخور الزينة الغير متوفرة في مصر، وتشحن في أغلب الأحوال من مواني البحر الأحمر. كلنا يري سيارات النقل وهي محملة بقطع ضخمة من صخور أقتطعت من جبال الجلالة، أو غيرها، وهي تتحرك ببطئ علي الطريق الدائري لتبلغ منتهي رحلتها عند شق الثعبان. يتم التقطيع وأحيانا الثقل، ثم تصدر في حاويات عن طريق مواني البحر الأحمر. دعنا نعيد صياغة ما سبق قوله: نحن ننقل الجبل من مناطق بالقرب من البحر الأحمر إلى المعادي لنصنعة جزئيا أو كليا ثم نعيده مرة أخري إلي موانئ ذات البحر للتصدير!؟! أثناء ذلك نستهلك السولار الذي نعاني من عدم وفرتة والدعم الهائل المطروح من ميزانية الدولة لتوفيره كسلعة رخيصة، وأثناء ذلك أيضا تفسد الطرق نظرا للحمولة الغير قانونية للسيارات القديمة والتي تسير ببطئ يزيد من معاناة مستخدمي الطرق في القاهرة. طبعا أنا غني عن التذكير بعدد الحوادث الهائل الذي تتسبب فيه هذه السيارات، والحالة النفسية والصحية لسائقيها. آلم يكن الأجدي والأنفع لنا أن ننشئ شق الثعبان "أو أي شق أخر" في منطقة الجلالة أو أختيار منطقة وسط علي طريق سفاجا – قنا (مثلاً) وهو من أقدم المحاور في مصر، وينتظر من يطلق شرارة البداية. وبذلك ننقل الناس إلي مناطق جذب جديدة، بدلاً من أن ننقل الجبل للقاهرة. وبذلك أيضا، نجعل لهذا المحور الرائع فائدة أكبر وأجل، وهي خلق مناطق ومدن جديدة معتمدة علي مصادر رزق حقيقية، سيكون من توابعها إنشاء مدارس ومستشفيات وأسواق. وقد تصل بنا درجة الوعي والحس القومي مداها وننشئ معهدا لصناعة أحجار الزينة. الصينيون هم ألمستورد الأكبر لأحجار شق الثعبان، والتي يتم تشغيلها في بلادهم بتقنيات علينا أن نتعلمها، إن أردنا تحقيق قول الرسول الكريم"أطلبوا العلم ولو في الصين". قد لا يعلم البعض أن محور قنا – سفاجا هو طريق أسفلتي عالي الجودة يصاحبه خط سكك حديد لتوصيل خامات الفوسفات من أبوطرطور إلي ميناء سفاجا ومصنع التركيز بالقرب من هذا الميناء. وتم توصيل الكهرباء لساحل البحر الأحمر عن طريق هذا المحور. كما يمر بجوار الطريق أنبوب لمياه النيل. يمر هذا المحور بأكبر مصادر اليورانيوم في مصر (المسيكات والعرضية وأيضا ليس بعيداً عن جبل القطًار) حتي أن هيئة المواد النووية أقامت محطة ومركز أبحاث حقلية عند الكيلو 85 من هذا المحور. توجد خامات الفوسفات التي يستغلها الآن مقاولون في مناطق واسعة خاصة في جبال القُرَية وأبو حاد وغيرهما بين قفط وشمال قنا. علي جانبي هذا الطريق يوجد العديد من مواقع الخامات المعدنية (بعضها مازال يستغل والبعض الأخر معطل لآسباب مختلفة). لن أتحدث عن ما تملكه هذه المنطقة من مقومات السياحة أو أستصلاح الأراضي، فيجب أن يقيم الوضع بكاملة. ماذا قدمنا من خطط للتنمية لهذا المحور؟ ما الذي قامت به الجامعات والمراكز البحثية حتي تنمي هذا المكان؟ لو كان هذا الموقع تحت يد متحضرون، هل كان يترك لحوالي 100 سنة دون تنمية. فكيف نتحدث عن إنشاء محاور جديدة للتنمية، ونحن لم نتمكن من الإستفادة من المحاور الموجودة فعلا ، وهى ذات مواصفات مناسبة وجاهزة للإستخدام اليوم قبل الغد. دعونا أيضا نتحدث عن محور آخر وهو محور قفط – القصير، والذي يمر جنوب المحور السابق، ويعرف هذا الطريق منذ أيام الفراعنة، حيث كان ممر الذهب الشهير، ومناجم الفواخير علي هذا المحور شاهد علي أن صخور هذا المحور أستمرت في تقديم الذهب علي مدار الآف السنين، فكانت في أوج مجدها أيام الفراعنة العظماء ثم أحتكرها الرومان علي نفس خطي الفراعنة، ثم أعيد تشغيلها تحت الإحتلال الإنجليزي، ثم أغلقتها حكومة الثورة في خمسينات القرن الماضي. ولقد أنشأ الفراعنة، والرومان من بعدهم، مئات من نقاط الحراسة والتنمية وتجميع مياه السيول. لم يتركوا السيول لتقتل الناس وتهدم البيوت في مواسم معروفة، كما نفعل نحن الأن، ولكن رودوها وجمعوا مياهها لصالحهم. كما أن هذا المحور هو الأهم أثريا، فنحن نري علي جانبي الطريق أثار الفراعنة، فلقد أستخدم الفراعنة الصخور المعروفة بأسم رسوبيات الحمامات في صناعة التوابيت ، ويوجد بعضها غير مكتمل علي جانبي الطريق. زار الملك فاروق في أوائل الأربعينيات من القرن الماضي موقع صناعة التوابيت في منتصف الطريق ووقع بإسمه علي الجبل بجوار آثار ومخطوطات الفراعنة. ذات يوم كنت أجمع عينات جيولوجية بالقرب من هذا المحور. لاحظت علامات فرعونية، وهي كثيرة جدا في هذا المكان، ولكن لأن هذه العلامة تحديدا تكررت علي مسافات متباعدة، وهي رسم لدائرتين وبينهما رمز يشبه الكوب. سألت كثيرا، حتي عرفت أنها إشارة لمن يسير علي هذا الطريق، أنك ستصل لمكان يقدم لك رغيفين وكوب من اللبن. كان ذلك علي هذا المحور منذ عدة الآف من السنيين، فما بالنا اليوم. والعديد من المحاور الأخري مثل أدفو – مرسي علم ، الذي يصرخ طلبا للتنمية ولا يستفيد منه أحد غير مريدي الشيخ الشاذلي، والذين اوقرهم واقدرهم، ويقع فية الكثير من مناجم الذهب ولكن الأشهر هو منجم السكري. السؤال مرة أخري ماذا قدمنا لهذا المحور الرائع والذي يضم أثار ومناجم بها كل الخير، وأرض عطشي للري لتصبح خضراء وبجوار الكثافة الأعلي والأفقر من سكان مصر؟ ويوجد محور الكريمات – وادي عربة – الزعفرانة ، ومحور القاهرة - العين السخنة ، ومحور وادي العلاقي – أسوان، وعدد كبير من الوصلات بين طريقي الصعيد الصحراويين (الغربي والشرقي) والوادي القديم والتي يحكمها العشوائية أو سوء الإدارة. هل بعد ما سبق نحتاج إلي إنشاء محاور جديدة للتنمية، أم نحتاج الي عقول العلماء للنظر فيما نحن فاعلون لتطوير ما نملك، أم ترانا ننتظر شعب آخر يأتي لينمى.