فى زيارتى الأخيرة للقاهرة قبل أسابيع قليلة، أُصبتُ باكتئاب من المهرجانات المفتوحة لأكوام الزبالة فى الشوارع. فى شارع رئيسى واحد فقط كانت هناك ثلاثة مقالب للزبالة، على زاوية أحدها وقفت أشاهد بتحسر ذلك الراكب على دراجته النارية وهو يقوم بحركة من أفلام «الأكشن» ليستدير استدارة بهلوانية بدراجته النارية المزعجة، ثم يرمى كيس الزبالة البلاستيك المنفوخ فى الحاوية فيسقط خارجها مفتوحاً، ليأتى كلب ضال باحثاً عن مستحقاته، فينهره طفل شوارع مسكين فى حالة «تصعب على أم أكبر الكافرين»، ليبدأ الطفل مهمته التنقيبية كبنى آدم ضال له الأولوية، بينما هناك بشر آخرون يكررون طقوس الرمى، سواء مترجلين أو من سيارة أو دراجة. البعض كان يترفع عن الاقتراب، فيرميها على حافة مزرعة المزابل ليمتد بساطها العريض أكثر. كل شىء كان يسير عادياً وبانتظام، لا غرابة فى الأمر إلا وجودى واقفاً «أبحلق» فى مشهد يبدو لهم عادياً جداً! * «والمزابل ببعض الأفعال تُذكّر»، فقبل سنوات سمعت حكاية عن سفر أحد المتفاوضين المصريين الكبار للخارج، من أجل غرض مجيد ومهم لتنظيف القاهرة بشكل حديث، ذهب وتفاوض لجلب مجموعة من سيارات جمع القمامة الغالية جدا مثل تلك التى توجد فى أوروبا، هذه السيارات حين وصلت إلى القاهرة لم تتمكن-بديهياً بسبب أحجامها الكبيرة- من دخول حارات القاهرة الضيقة الملتوية، ومع شبه غياب مهنة «الزبال» القديم بدأت تتكون أول أهرامات الزبالة فى العصر الحديث. * أما الحكاية الأفدح طرافة فهى عن سفر أحد المتفاوضين الكبار من دولة عربية نفطية إلى أوروبا، كى يتفاوض على شراء عربات ومعدات تنظيف لمطار دولى جديد فى بلده، فلما أراد أصحاب الشأن فى أوروبا التفاوض معه، أبدى ترفعه عن التفاوض والمساومة، سألوه عن بعض التفاصيل، أجاب بكل إباء وشمم بأن المطار الذى سيُبنى فى بلده أكبر من مطارهم، وأنه يريد كل العربات والمعدات وملحقاتها مثل مطارهم تماماً! أرسلوا لهم الشحنة المطلوبة بالمبلغ الخرافى، الطريف أن أغلبها احتوى على عدد رهيب من كاسحات الثلوج وأجهزة تذويبها وشفطها، تماما مثلما يحتاج هذا المطار الأوروبى الضخم فى شتاء طويل يتعدى ستة أشهر! * رجل النظافة فى فيينا له هيبة وسلطة لا يستهان بها، فهو يوبخ أكبر رأس فى المبنى -ولو كان وزيراً- إن رآه يرمى الزبالة فى الحاويات الخطأ؛ فالبقايا البيولوجية لها حاوية، والأوراق والكرتون لهما حاوية، والبلاستيك فى حاوية، والزجاج الملون فى حاوية والأبيض فى أخرى، والمعلبات والصفيح والمعادن فى حاوية، وهناك حاويات خاصة بالملابس المستعملة، وأخرى للبطاريات، وأخرى للمخلفات الخاصة، أما أجهزة الكمبيوتر والأجهزة الكهربائية أو الأثاث فلها مكان خاص فى المدينة يتم نقلها إليه. أطفال الحضانة والمدارس الابتدائية هنا يقومون بزيارات استطلاعية لمصانع تدوير النفايات، يتدرب ذهنهم من الصغر على كيفية التصرف مع النفايات وطرق التخلص منها، ولعل من أجمل أشكال المبانى فى النمسا، هو مصنع تدوير النفايات الذى صممه الفنان النمساوى الشهير «هوندارت فاسر» فى شكل خرافى، حتى يكاد من لا يعرفه يعتقد أنه متحف. * فى دولنا فى الشرق نعتبر خارج البيت مشاعاً لكل تصرف بيئى أحمق، ضاع حس الملكية العامة والحفاظ عليها وحماية البيئة، فكلمة (بيئة) التى لها أجمل المعانى فى اللغات الأوروبية، فوجئت بأنها كلمة قذرة فى مصر، ما زال الشارع هو المزبلة والمبولة و«المبصقة» وأكثر! ليتنا نفهم الحياة مثل المصريين القدماء أول حماة للبيئة فى العالم، الذين لم يكن لديهم خطط لا خمسية ولا عشرية ولا حتى خطة المائة يوم المستحدثة!