سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
فى ليلة القدر.. «جبريل» يدعو والمصلون وراءه: «اللهم ارحم شهداء سيناء.. اللهم ثبت رئيسنا .. اللهم زلزل الأرض من تحت بشار» خادم المسجد: يا جماعة هنا مفيش آلهة.. اللى جاى لربنا أهلاً بيه خلونا ننول ثواب اليوم
ليلة واحدة تنحنى فيها القامات سجودا، وترتفع فيها الأكف دعاء، وتنهال فيها الدموع خشوعا، وتعظم فيها الآمال، ويكثر فيها الرجاء، يشتاق المسلم إلى يوم الدعاء، ويبكى بحرقة لفراق شهر الكرم والعفو. داخل محطة مترو «أنور السادات» يتجمعون، فى اتجاه واحد «محطة مارجرجس» وقبل موعد مدفع الإفطار بساعة يتزايدون، كلُ يمسك عُدته فى يديه، الأطفال يقبضون بأيديهم على أكياس العرقسوس والتمر هندى، بينما كبار السن والعجزة يحملون كراسى خشبية صغيرة سهلة الفك والتركيب حتى تُعينهم على مشقة الصلاة.. «لله در الأيام الخوالى ولله در السراج المنير صلى الله عليه وسلم والصحب المبجل».. كلمات الشيخ محمد رفعت تتردد من خلال ميكروفون المسجد الكبير «عمرو بن العاص»، الباعة الجائلون يحيطون المسجد فى اليوم الذى ينتظرونه من العام للعام، «إزازة مياه يا باشا.. عصير يا أمورة...»، يتجاهلهم المارة الذين أخذوا حذرهم واشتروا بضاعتهم فور خروجهم من البيت حتى لا يكونوا كبش فداء لاستغلال هؤلاء البائعين، «أحمد عبدالفتاح» شاب فى منتصف الثلاثينات يقول: «المياه هنا ب 4 جنيهات.. طب ليه.. المفروض الناس تستغل يوم زى ده وتعمل خير مش تستغل الغير»، ثوان قليلة وتجد بعض السيدات يوزعن «السوبيا والتمر والعصائر» على الوافدات مجاناً، يرفضن إعطاء الرجال: «إحنا بنوزع على الستات بس.. أما بالنسبة للرجالة فهتلاقوا قدام شوية ناس هيدوكم».. المساحة المُحيطة بالجامع محجوزة من قبل مُصلين جاءوا بعد صلاة العصر حتى يقتنصوا مكاناً لهم يتخلل الناس فى الناس ويتهامسون بكلمات ربانية جليلة: «لا إله إلا الله.. محمد رسول الله.. اللهم استجب لدعائنا فى تلك الليلة المباركة.. ليلة القدر». فلاشات الكاميرات تضوى فى المكان صادرة من عدسات المصورين الأجانب الذين استغلوا ذلك اليوم لتوثيق الحدث، يقبع الأطفال أمام تلك العدسات الزجاجية مبتسمين غير مبالين بالمارة، تتشارك الضحكات وتتمازج، بينما يراقب الوضع الوافدون على ساحة المسجد وسكان المنطقة من شرفاتهم سعداء بضيوف الرحمن.. لافتات دعائية لأحد الأحزاب الدينية وبقايا دعاية لانتخابات البرلمان السابقة، تُزين المنطقة المحيطة بالمسجد، تتخللها زينة رمضان الشعبية، وسيارات للشرطة تحاول تأمين المكان، بينما يفتح المُصلون أمتعتهم لتجهيز طعام الإفطار، دقائق ويحين موعد أذان المغرب، يتساءل أحد الجالسين «هو الشيخ جبريل هيصلى بينا المغرب»، فيرد صديق له يبدو أنه صاحب خبرة بالمكان: «لأ هو بيصلى العشاء والتراويح بس المشكلة فى الزحمة اللى بتحصل حواليه». يطوف بجلبابه الأبيض وسط المُصلين، الناس يعرفونه شكلا، منذ 12 سنة وهو على عادته، يوزع ما أفاض الله عليه من خير، لا يعرف أسماء الناس ولكنه يحفظ قسمات وجوههم بحكم العشرة: «كل ليلة 27 رمضان لازم أكون هنا أوزع اللى ربنا يقدرنى عليه»، عم «محمد» كما ينادونه ليس أحد الأثرياء لكنه صاحب فرشة للشاى ببولاق الدكرور غير أنه مع وصول اليوم الخامس عشر للشهر الكريم يبدأ فى جمع العدة، يحتجز نصيباً من قوت يومه، فيبدأ فى تحويشها ثم يشترى الفاكهة والفول السودانى والحلوى والتمر والمهلبية... «كفاية عليّا نظرة السعادة اللى بشوفها فى وشوش الناس»، رغم الكم الهائل من الأطعمة التى أحضرها لا يأكل منها شيئاً، إذ يستعين على مهمته ببعض اللقيمات يحصل عليها من المُصلين أيضاً أثناء توزيعه الأطعمة عليهم. الباب الرئيسى للمسجد يعلوه كشافان مظلمان، وعلى يمين الباب سيارة للمطافئ عرفت طريقها للمكان مع بداية العشر الأواخر من شهر القيام، «عماد» شاب ثلاثينى يقبع داخل كابينة السيارة يتخذ منها مُصلى له ويدعو الله أن يمر اليوم بسلام، فأهم ما يبغيه أن ينال رضا الخالق، يعلو خلفه صوت الفتاة، محجبة ترتدى تى شيرت كتب عليه «مليونية الخير»، «هدى» هى الأمين العام لجمعية خيرية تقبض بيمينها على مجلد ورقى به إيصالات قيمة الواحد منه جنيه، يمثل الوجود فى مسجد «عمرو» للفتاة العشرينية فرصة جيدة للتواصل مع أكبر عدد من الناس، فجمعيتها ترعى نحو 120 أسرة فى الدويقة والعشوائيات وتحاول مساعدة أصحاب المشروعات الصغيرة. «أحمد» أحد المُصلين ترك مسجد النور بالعباسية ليلة 27 رمضان ليحييها فى مسجد «عمرو بن العاص» فإمام جامع النور قد أخبره أن ختم القرآن سيكون فى ليلة 29 على غير العادة وبرر ذلك: «وزير الأوقاف صلى يومين بأجزاء بسيطة، أبطأت من خطتهم لختم القرآن ليلة 27» غير أنه ظل يتواصل مع أصدقائه من المُصلين هناك الذين أخبروه بدورهم أن مسجد النور يشهد زحاما بُحكم العادة فى ليلة القدر فما يهم الناس هو الدعاء وليس ختم القرآن وحده. سيل من الفاكهة يسقط على المصلين، عم «محمد» لا يتوقف عن قذف «الخيرات» على رؤوس الأشهاد، «شاى ومياه ساقعة يا شيخ» يهتف بها أحد الصبية حاملاً صندوقا بلاستيكيا يطوف به بين صفوف المُصلين، أصوات لغط ينقلها ميكروفون المسجد، يردد حينها الموجودون بالساحة الخارجية أن ذلك سببه حضور الشيخ محمد جبريل «إمام المصلين»، تظل الأصوات على الوتيرة نفسها حتى يؤذن بصلاة العشاء، فتهدأ النفوس وتخفت الأصوات. عقب صلاة العشاء زالت الممرات التى كانت تفصل بين النساء والرجال، تصلى أسر كاملة (الأب والأم وأبناؤهما) متجاورين، تقطع النساء والفتيات صلاة الرجال بالمرور أمامهم فى محاولة للحاق بمكان.. تبتعد السياسة ولا يتذكر المصلون إلا الثواب والدعاء، لهذا جاءوا، لكن إعلان إمام المسجد أن الشيخ محمد حسان لن يؤم المصلين فى صلاة التهجد لتأديته مناسك العمرة، أعادهم إلى السياسة مرة أخرى، تبادر إلى الأذهان زيارة الرئيس محمد مرسى إلى الأراضى المقدسة، فتحولت الفترة ما بين العشاء والتراويح إلى ساحة للجدال بين المُصلين أحدهم وصف قرارات «مرسى» الأخيرة: «عامل زى السادات بالظبط كده بقى رئيس بحق وحقيقى»، بينما يستنكر أحدهم التنظيم السيئ لهذا اليوم، ويشكو رجل مُسن من قلة الإنارة بسبب عدم إضاءة كافة الكشافات المحيطة بالمسجد. (يا جماعة هنا مفيش آلهة .. اللى جاى لربنا أهلا بيه.. خلونا ننول ثواب اليوم) صوت خادم المسجد مُعقباً على حالة اللغط التى أحدثها التدافع داخل ساحة المسجد لمحاولة الوقوف فى الصف الأول خلف «الشيخ جبريل» بدأت الصلاة فساد المكان صمت القبور، إلا من صوت جبريل مرتلا للقرآن، تمر الأربع ركعات الأولى فيناشد خطيب المسجد الجموع بالتبرع بالدم والتصدق من أجل اليتيمات، حينها تمر بنات صغيرات يحملن صناديق خشبية مكتوبا عليها «تبرعوا لمسجد عمرو بن العاص»، يستأنف الشيخ الصلاة حتى يصل إلى ركعة الوتر التى ينتظرها الجميع، حيث دعاء الشيخ بصوته الجلى من الألف إلى الياء يدعو الله، يجهش البعض بالبكاء بينما ينهنه الآخرون كالأطفال، وبين هذا وذاك يعلو صوت الشيخ بدعاء (اللهم زلزل الأرض من تحت بشار.. اللهم أرنا فيه عجائب قدرتك) يرج المكان ويرد المُصلون بحرقة (آمين)، يهدأ المُصلون فيما يجهش جبريل بالبكاء حال الدعاء بالرحمة على شهداء سيناء، يتوقف عن الدعاء للحظات تتبعها دموع المصلين، يُنهى الشيخ دعاءه للرئيس بالثبات والحفظ من الحقد والحسد وإصلاح الفساد الذى طغى فى البلاد.