استراتيجية «رمسيس/ نفرتارى» مصر تمتلك من قبل الميلاد استراتيجية جنوبية، نُحِتتْ فى ضخامة رائعة، نراها بالبصر ونسينا مغزاها لركود البصيرة، إنه معبد أبى سمبل، ذلك المعبد الفرعونى الوحيد فى ثنائيته؛ معبد «رمسيس/ نفرتارى». لَمْ نتساءل: لماذا اختير موقع المعبدين فى أقصى الجنوب؟ ولماذا هو ثنائى؟ ولماذا يطلان على نيل البلاد؟ رأيى أن المعبدين كانا فى عصرهما الذهبى رسالة استراتيجية، حولهما الكهنة ورجال العلوم وزحام من جوقات المنشدين والموسيقيين والفنانين وقطاعات الخدمات الرفيعة، التى تعتنى بكل هؤلاء وبالمشاركين فى احتفالات المعبدين الدينية والدنيوية. أى إن المنطقة كلها كانت جامعة مفتوحة، ومدينة تعيش فى أجواء ثقافية رفيعة، مناخها جنوبى يحوى سكان المنطقة من نوبيين وغير نوبيين. وقطعاً جذبت من الجنوب الأفريقى عطشى الفنون والعلوم الدينية والدنيوية، فالمعبدان يقصدان الجنوب، ويأتى الجنوبيون تلاميذ لنيل المعرفة، ويعودون إلى بلدانهم وقبائلهم وقد تمصّرت وتنوّبت ثقافاتهم، حاملين عرفاناً لمصر متشربين بثقافتها، وبذلك يكونون قلاعاً ثقافية مصرية تحمى حدود ومصالح مصر من داخل بلدانهم. ودلالة المعبد الصغير، معبد «نفرتارى»، يشير لأعماق وجوانب هامة، فلأول ولآخر مرّة فى تاريخ الفراعين يتم إنشاء معبد لامرأة، ونعلم أن «نفرتارى» ليست من أصول الأسر الحاكمة، ورأىٌ يقول إنها نوبية، لنقل إنها جنوبية وكفَى، أى إن «نفرتارى» تمثل الجنوب، البعد الاستراتيجى الأهم لمصر. وعليه، فإن أهمية «نفرتارى» عند زوجها رمسيس الثانى ليس فقط لجمالها، بل لأهمية قبائلها الممتدة لأعماق الجنوب، لذا أقام معبدها فى الجنوب ليقول لقبائلها: إننى أقدركم وأحترمكم بدليل مكانة ابنتكم عندى، فالشمال والجنوب لهما الوحدة كما اتحدت أنا و«نفرتارى». أليس هذا ما نردده الآن من ضرورة وحدة قطرى وادى النيل مصر والسودان؟! المعبد الثنائى معجز علماً وفناً وفخامة، وكل آت من الجنوب الأفريقى فى الأغلب الأعم يأتى مع مجرى النيل، الطريق الأساسى الرابط بين الشمال والجنوب. وأمام معبد «نفرتارى» الجميل الرقيق يجد من تمثله موجودة فى احترام لائق، «نفرتارى» الملكة، فيشعر الجنوبى الآتى من قريب، والآتى من بعيد أنه ليس بغريب، وأن له فى الديار دياراً. وأمام تماثيل فرعون مصر الأربعة يُصْدم؛ يراهم ضخاماً يجلسون فى شموخ الواثق الراسخ، يشعر بالهيبة أمام الفرعون المصرى، فالفرعون العظيم فى علو شاهق متسامٍ، لسان حاله يقول للآتى: انظر كم أنا جميل! انظر كم أنا جليل! واعلم كم أنا جبّار متين! لى السطوة ولى الغلبة، من عادانى خاسر، ومن والانى رابح. الآتى ينبهر ويترسخ فى قلبه وإدراكه أن مصر تعلو ولا يُعلى عليها. إذن من يأتى ويدخل الديار إن كان زائراً ينبهر، وإن كان غازياً ينهزم من قبل أن يتخطى الحدود، إنها الصدمة الحضارية. فحكمة وجود المعبدين بهذه الكيفية وفى هذا المكان ورسالتهما أوجزهما فى بندين رئيسين: 1- توثيق ارتباط جنوب مصر بشمالها. 2- حصن ثقافى يشع إلى الجنوب ويبنى الجسور معهم. المعبدان كونا مدينة ثقافية شاملة، وعليه يجب أن نقيم نحن الآن، وفى نفس الموقع العبقرى، مدينة تراثية علمية اقتصادية، هدفها الاستراتيجى هو الإشعاع الثقافى جنوباً لتأمين مصر، إشعاع ثقافى يعمل على ترسيخ التآلف والفهم الصحيح، والمصلحة المشتركة بين مصر والسودان أولاً، ثم بين مصر والسودان كوحدة متجانسة وبين أفريقيا جنوب الصحراء، خاصة دول حوض النيل. فلنعطِ الفرصة لعلماء مصر، وهم على استعداد للتخطيط الجامع الشامل، لكن، ويا حسرتنا من كثرة «لكن»! لكن أولاً على المسئولين محاربة الفساد المتوحش هناك، الذى يحارب الشباب وانطلاقاتهم الزراعية ويعطشها لمصالحه الخاصة ومصالح الموظفين الذين يحمونه. مدينة أبى سمبل حالياً بها بنية أساسية معقولة، وجذبها الأثرى لا يقاوم، والمواصلات إليها موجودة براً ونهراً وجواً، حولها فضاء رحب لم يلوث بعد معمارياً، أى إن المقومات الأساسية موجودة، وتهيئة هذه المدينة لتؤدى نفس دور المعبدين قديماً يحتاج إلى مشاركة الأزهر بمدينة بعوث إسلامية تستقبل أبناء أفريقيا المسلمين، وأيضاً توجد الكنيسة المصرية، مراكز ومعاهد الدراسات الأفريقية للعلوم، ساحات وأماكن لإقامة مهرجانات الفنون والسينما والمسرح الأفريقية، والرياضات التراثية والحديثة. هكذا كانت رؤية رمسيس الثانى على حد زعمى، التركيز على المدخل الثقافى، وهو ما تتناحر عليه الدول العظمى حالياً، فيما يسمى بالحروب الثقافية. وأشير أخيراً إلى وقفة تمثال الحرية على بوابة نيويورك، ليتشابه دوره مع الدور ذاته الذى أداه المعبدان مع الفارق. وبأحاسيس عميقة بالفخر أقول إن رمسيس الثانى ومستشاريه كانوا على وعى كامل بأهمية الثقافة استراتيجياً قبل ما تعى ذلك العصور الحديثة، وبأحاسيس عميقة من الأسى أقول إننا تخلفنا كثيراً عن أسلافنا، وصرنا نجهل أهمية البعد الثقافى فى تماسك مصر داخلياً ولحماية مصالحها خارجياً. مشروع دستورنا الحالى كما اهتم بالتعليم والبحث العلمى أعطى للثقافة أهمية كبيرة، وجعلها حقاً لكل مواطن، غنيه وفقيره، قريبة من العاصمة وأبعدها عنها، واهتم بالنوبة التى تحوى معبدى أبى سمبل. ومقصد بند 236 من الدستور أهمية التنمية فى محافظات الحدود والمناطق المهملة، وأهمية مشاركة أهالى تلك المناطق فى التخطيط والتنفيذ والاستفادة؛ مادة تعمل على إعادة النوبيين إلى مناطقهم، وهذا أساسى لتنفيذ نظرية معبد «رمسيس/نفرتارى»، لذا فالنوبة قبل غيرها قالت وستؤكد قولها بصيحات عالية فى لقاءات حاشدة.. لدستور مصر.. «إيّو». لدستور الكرامة.. «إيّو». لدستور العودة.. «إيّو». وتحيا مصر