فجأة يسكت المكان ويسكن وسط صمت الحاضرين وانتباههم.. فيعلو صوت حنون قوى عميق ويشدو بغناء أوبرالى تهتز معه المشاعر مثلما اهتز المكان.. بدلال محسوب ولغة جسدية مدروسة ينساب الغناء ويذوب بين هارمونية الكلمات وروعة اللحن وجمال العزف وسيطرته على أصابع هذه الآلة الموسيقية التى بهجت بيوتا مصرية كثيرة أيام الزمن الجميل.. وهو.. هو بخفة شديدة وعلى أطراف قدميه يقوم من مقعده ليغلق النافذة عندما استشعر بثرثرة خارجية يحملها نسيم ليلة خريف حالمة داخل المكان.. كان هذا المشهد داخل منزل السفير البريطانى جيمس وات بالقاهرة عندما أقام فى منزله أمسية شاعرية حالمة أراد من خلالها أن يقدم لنا موهبة مصرية طازجة وجديدة فى الغناء الأوبرالى، وعازف بيانو قمة فى الروعة والأداء، كلاهما يخطو طريقه إلى العالمية؛ أحود خضر، التى تشغل الآن مديرة لأكاديمية الموسيقى بالجامعة الألمانية بالقاهرة، بالإضافة إلى عملها كفنان متفرغ فى المسرح الألمانى ببرلين، ومحمد صالح، عازف البيانو الأول فى أوركسترا القاهرة السيمفونى. مرة أخرى أعود إلى هذه الضوضاء الخفيفة التى خشيت حساسية السفير أن تزعج الحاضرين ليحضر إلى ذهنى سؤال طالما كان يراودنى «هل الفن والجمال رفاهية؟».. «هل من المحرج أن أطرح هذا الموضوع وهناك العديد من القضايا الملحة والخطيرة فى الحياة التى لا تشغل حالنا فقط بل تشغل حال العالم كله؟!».. الإجابة كما «رد» بها عقلى كانت «لا» ليس هناك إحراج، فمن سوء الحظ أننا نعيش فى بيئة تحيطها أشياء قبيحة من كل جانب يفرضها عليك من ناحية أساتذة البناء والتخطيط والقائمون على نشر الذوق والجمال بثقافته ومعرفته من ناحية أخرى متجاهلين بذلك حساسية المتلقى الذى تنهار حواسه البصرية والسمعية كل يوم دون أن يدرك حجم هذا التأثير على سلوكه وعمله ومزاجه بل وكيانه ككل. نعم هو أمام قضية ملحة.. هو يحتاج من الفن والجمال الأمل.. الأمل الذى يؤكد أن الحياة بجانب ما بها من حقائق موحشة إلا أنها على استعداد أن تقدم لنا ما هو صافٍ ومتفائل ويحمل معانى أخرى كثيرة، وهذا ما يبعث به غناء جميل أو رسم بديع أو حتى تصميم لإضاءة ترمى علينا دفء نورها. نعم الفنون الجميلة هى التى تقدم لنا هذا المفهوم عما ينبغى أن تكون عليه الحياة. وبالتالى فهى تدعم محاولاتنا لكى نصبح نسخا أفضل من نسخنا الأصلية وتحقق لنا التوازن النفسى الذى نفتقده ونبحث عنه داخلنا، ومن هنا تنبع حيويته حيث يصبح علاجا وليس فقط كما يراه البعض ترفيها. وعلى أى حال هى معادلة ليست بالسهلة، خاصة عندما يطفو بجانبها أولويات سياسية يصعب منافستها كالجوع والفقر والمياه والمأوى وحق البقاء!!! هكذا سبح عقلى خارج النافذة وتلاحم لدقائق مع ثرثرة المارة وحرس المنطقة و«غفر البيوت».. فيما يا ترى يقولون؟.. فيما يا ترى يسمعون؟.. وفيما يا ترى يشعرون؟ فهل هذا الغناء الذى كان يسبح بجلال فى ليل القاهرة الساكن كان ملاذا وسكونا..؟! أم كان صوت الكروان المغرد فى السماء أقرب لحمل الأمنيات والأمانى التى من الصعب منافستها؟؟!!