كان للموقف الروسى من ثورة 30 يونيو أكبر الأثر فى دعم شعبية روسيا فى مصر، وتعالت الأصوات الداعية لإعادة العلاقات المصرية - الروسية إلى ما كانت عليه خلال الخمسينات والستينات. فقد جاء الموقف الأمريكى المنحاز ل«الإخوان المسلمين» وتحدِّى واشنطن وتجاهلها الإرادة الشعبية المصرية صادماً لكثير من المصريين الذين رأوا فيه تدخلاً صارخاً وغير مقبول فى الشأن المصرى. على خلاف روسيا التى دعمت الثورة وبدت شريكا «محترما» لا يتدخل فى الشأن الداخلى لمصر ولا يتلاعب باستقرار دول المنطقة والتوازنات العرقية والدينية والمذهبية داخلها لخدمة مصالحه على حساب أمن هذه الدول والأمن والاستقرار الإقليميين؛ فعلى عكس قوى دولية وإقليمية أخرى لم تحاول روسيا التدخل فى مسار الثورة المصرية، بدعم طرف أو قوة سياسية ما على حساب الآخرين، وكان هناك تأكيد على أن مستقبل مصر يقرره المصريون أنفسهم. وهو أمر يُكسب روسيا احتراماً وتقديراً، ويدفع العلاقات المصرية - الروسية فى اتجاه مزيد من التطوير فى المستقبل. تدعم ذلك الخبرة التاريخية الإيجابية للتعاون؛ حيث اتسمت العلاقات المصرية - الروسية، منذ بدايتها، بالود والتعاون، وكان لروسيا مواقف لا تُنسى بالنسبة لمصر خلال العدوان الثلاثى على مصر فى أكتوبر 1956. كما كان لها دور تنموى فاعل فى مصر خلال حقبة الخمسينات والستينات، تضمن تشييد 97 مشروعاً تنموياً وصناعياً فى مصر، تمثل حتى الآن دعامة الاقتصاد المصرى. كما كانت روسيا المصدر الرئيسى لتسليح الجيش المصرى وتطويره وتحديث منظومته الدفاعية، وقد خاضت مصر حرب السادس من أكتوبر 1973 اعتماداً على التكنولوجيا والأسلحة الروسية، والتدريب الروسى لكبار العسكريين المصريين، الذى تميز بالكفاءة والجدية. غير أن الأهم من الماضى هو ما يمكن أن تقدمه روسيا لمصر فى المستقبل؛ فمن الواضح أن هناك إرادة حقيقية لدى البلدين لتطوير التعاون بينهما والتأسيس لشراكة تخدم مصالحهما معاً. وفى هذا الإطار تبرز أهمية تحديد أولويات ومجالات التعاون، والإجابة عن التساؤل المهم: ماذا تريد مصر من روسيا؟ فى ضوء قرار واشنطن بتجميد جزء من مساعداتها العسكرية لمصر، يتضمن المعدات الثقيلة، يأتى التعاون العسكرى بين البلدين فى مقدمة الأولويات المصرية.. فمن المعروف أن روسيا تمتلك قوة عسكرية عظمى تكافئ تلك الأمريكية بل وتتفوق عليها فى بعض المنظومات، خاصة التقليدية منها، وهى ثانى أكبر مصدر للسلاح فى العالم وتستأثر ب26% من إجمالى المبيعات العالمية من الأسلحة بقيمة بلغت 15 مليار دولار عام 2012. وهناك آفاق رحبة للتعاون بين البلدين فى هذا المجال، خاصة مع كون منظومات الأسلحة الروسية أكثر ملاءمة للبيئة الصحراوية المصرية. ومن المنتظر أن تعطى زيارة وزير الدفاع الروسى سيرجى شويجو لمصر والوفد المرافق له، الذى يشمل مسئولين بشركة تصدير الأسلحة الروسية «روس أوبورون إكسبورت»، دفعة قوية للتعاون بين البلدين. يضاف إلى هذا التعاون الأمنى والاستخباراتى فى مجال مكافحة الإرهاب؛ حيث تدرج موسكو جماعة الإخوان المسلمين وعدداً من الجماعات الإسلامية المتشددة ضمن قائمة المنظمات الإرهابية لديها، وتدرك القيادة الروسية خطورة الإرهاب فى مصر والمنطقة وأهمية التعاون بين البلدين للقضاء عليه. كما يحتل التعاون التقنى أولوية واضحة فى الشراكة المستقبلية بين البلدين. ويتضمن الاستفادة من الإمكانات التكنولوجية الضخمة لدى روسيا فى تحقيق الحلم المصرى فى إنشاء أول محطة «كهروذرية» فى مصر والاستخدام السلمى للطاقة النووية، ومن المعروف أن الخبراء الروس هم من أقاموا مفاعل «أنشاص» المصرى للبحوث النووية خلال الحقبة الناصرية، ويمكّن البروتوكول الموقَّع بين البلدين فى مارس 2008 إحدى الشركات الروسية المعنية (أتوم ستروى إكسبورت) من المشاركة فى المناقصة المصرية لبناء محطتها «الكهروذرية» فى الضبعة. هذا إلى جانب الاستفادة من التكنولوجيا الروسية فى تطوير البنية الإنتاجية الصناعية والزراعية فى مصر. ويتضمن ذلك الاستثمار المشترك فى مجال الإنتاج المشترك للدواء والمستحضرات البيوتكنولوجية، ونقل التكنولوجيا الحيوية الروسية المتقدمة إلى مصر، وتفعيل اتفاق إنشاء المنطقة الصناعية الروسية المتخصصة فى الصناعات المغذية للسيارات والطائرات والحاسبات الإلكترونية وبعض السلع الهندسية الأخرى بمدينة برج العرب الصناعية المصرية. هذا إلى جانب استثمارات شركة «لوك أويل» الروسية فى مجال البحث والتنقيب والإنتاج فى قطاع البترول المصرى، واستثمارات شركة «غاز بروم» فى مجال الغاز الطبيعى. كذلك، تحديث البنية الصناعية التى شُيدت فى فترة الاتحاد السوفيتى، مثل تحديث مولدات الكهرباء فى السد العالى وإعادة تأهيل غلايات شركة حلوان للحديد والصلب، وإعادة بناء ترسانة السفن بالإسكندرية وغيرها. كما يتضمن أيضاً الاستفادة من الخبرة والتكنولوجيا الروسيتين فى تطوير الزراعة واستصلاح الأراضى؛ فالمستقبل الحقيقى لمصر هو فى تطوير القطاع الزراعى. أما البعد الثالث للشراكة المصرية - الروسية، الذى لا يقل أهمية بالنسبة للاقتصاد المصرى، فهو عائد السياحة الروسية لمصر؛ فالروس يعشقون مصر، وتتصدر روسيا قائمة الدول المصدرة للسياحة لمصر، وبلغ عدد السياح الروس القادمين لمصر قبل ثورة يناير 5٫2 مليون سائح سنوياً. يضاف إلى هذا كون روسيا شريكا تجاريا مهما لمصر؛ حيث تعتبر مصدرا رئيسيا لسد احتياجات مصر من القمح والسلع الاستراتيجية الأخرى، ومنها الآلات والمعدات الثقيلة، كما أنها تمثل سوقا واسعة للمنتجات المصرية، خاصة الموالح والبصل والبطاطس وغيرها. لقد عادت روسيا كقوة كبرى، ولكن برؤية وأولويات لسياستها الخارجية تختلف جذرياً عن تلك التى حكمت السياسة الخارجية السوفيتية على مدى ما يزيد على سبعين عاماً. فقد أصبحت السياسة الروسية أكثر براجماتية وأكثر تحرراً من القيود الأيديولوجية بل والسياسية. وقد وضعت روسيا معياراً موضوعياً للتعاون مع أى دولة، ألا وهو العائد الاقتصادى من التعاون فى أى مجال، بما فى ذلك المجال العسكرى. وعلينا استغلال الفرص المتاحة والعمل بجدية لتطوير التعاون والشراكة بين البلدين.