كان فيلوباتير جندياً فى جيش الملك ديكيوس، واشتهر بكفاءته وأمانته وشجاعته حتى إنه كان أكفأ حامل سلاح فى مجموعته، فصار أحد المقربين من الملك وصارت له مكانة رفيعة فى سلك الجندية آنذاك، ويقال إنه فى إحدى حروبه التى خاضها نزل إليه ملاك وأعطاه سيفاً يحارب به البربر، ومنذ ذلك الحين لقب باسم «أبو سيفين». وبعد الفوز الساحق على البربر طلب الملك من كل القادة والجنود فى جيشه تقديم القرابين للآلهة ظناً منه أنها هى من ساعدتهم فى النصر على أعدائهم، ولكن فيلوباتير كان معتنقاً للمسيحية فرفض تقديم القرابين للأصنام، فما كان من الملك إلا أن قتله، ومنذ ذلك الحين لقب فيلوباتير ب«القديس الشهيد». تلك هى الرواية التى تحفظها رشا فهمى عازر عن ظهر قلب، وتلك القصة هى التى كانت وراء تسميتها لابنها باسم «فيلوباتير»، تيمناً بالقديس الشهيد الذى يعنى اسمه «محب الرب»، وربما هذا ما جعل الجميع كبيرهم وصغيرهم يشعرون بأن هذا الطفل الذى رزقهم به الله منذ عامين ونصف العام سيكون له حظ من اسمه، وهذا ما كان فأحبه الجميع. «فيلوباتير أشرف مسيحة»، الذى يرقد الآن فى إحدى غرف العناية المركزة بمستشفى المعادى المركزى، هو أصغر ضحية للحادث الإرهابى الذى وقع يوم الأحد الماضى فى كنيسة الوراق، رصاصة نافذة فى البطن نالها الصغير أثناء حضور فرح عمته ليرقد من ساعتها بين الحياة والموت. بصوت مملوء بالشجن تتحدث الجدة «مارى حلمى عطية» عن حفيدها الصغير الذى كان يملأ الدنيا مرحاً وفرحاً، تتحدث عن «وِلد الوِلد» بحبال صوت تبدو كأنها تتقطع من شدة الحزن والألم، تتساقط دموعها لتغطى خديها ثم تعود لتمسحها لتسمح لغيرها بالسقوط، تقول الجدة المكلومة: «ولادى وأحفادى كانوا خارجين زى الزهر المفتح فرحانين وبيغنوا، وفجأة دمهم كلهم بقى سايل على الأسفلت»، تقولها بصوت عالٍ وعيناها شاخصتان إلى السماء؛ «عوضى على الله»، ثم تعود لترفع كفيها ناحية السماء: «ربنا يشفيك يا فيلوباتير، ويرجعك لينا بالسلامة». فى صومعته الخاصة يجلس الجد فهمى عازر عبود بغرفة صغيرة فى مدخل المنزل، يكسو حوائطها صور لأبنائه جميعاً، صورة لابنه «سمير» الذى اغتالته أيادى الإرهاب، وصور لبقية أبنائه معلقة على الجدران، يتحدث إليهم لكن لا يأتيه الرد، فيعود ليقول: «فيلوباتير حفيدى كان أول ما يشوفنى يجرى يترمى فى حضنى، ويقول لى: جدو جدو شيلنى. وكنت بافرح قوى بيه لأنه أصغر أحفادى، وكان محبوب مننا كلنا، وفى الإجازات والأعياد كان بييجى يقعد معايا هو وأخته مريم». يبحث الجد عن دراجة صغيرة اعتاد الحفيد أن يركبها كلما أتى لزيارته، ثم ينظر إليها ويقول: «يا ترى هترجع تركبها تانى زى الأول وأجرى وراك عشان أسندك وماتقعش ولّا خلاص كده مش هشوفك تانى وهتحصّل عمك سمير وأختك مريم؟». يبتسم الجد ابتسامة مهمومة حينما يتذكر اليوم المشؤوم الذى وقع فيه الحادث ويقول: «كنا فرحانين كلنا وأخدت أحفادى بره البيت هنا وقعدت أرقص معاهم وبقينا نعمل دايرة ونلف مع بعض، وكأنى كنت حاسس إنى باودعهم»، يتحسس أصابع يديه ويقول: «أنا حاسس إن صوابعهم الصغيرة لسه ماسكة إيدى لحد دلوقتى».. ينهى حديثه إلينا ثم يعود ليستكمل حديثه مع تلك الصور القابعة فى صومعته، لكنْ لا يرد عليه أحد.