في يوم دراسي من ستينيات القرن الماضي، خرج "حمدي" من مدرسته قاصدًا بيته في "كفر طلا التابع لمركز الفشن بمحافظة بني سويف، هاهو يرى والده عبد الفتاح، متفتحة أساريره، يضحك، وكأنه رزق بمولود جديد، ليعرف أن سر هذه الفرحة هو أن الرئيس عبد الناصر ملّك الفلاحين أراضٍ، وكان من نصيبنا حيازة زراعية ب 3 أفدنة. كان صغيرًا عندما أنجبت والدته أخته "إيمان" وسط عيدان القطن. يومها جرى ليحضر لها "الكاريته" لتنقلها إلى البيت. كان صغيرًا عندما كان يصطحب أطفال قريته لجمع "دودة القطن"، طمعًا في جنيهات الجمعية التعاونية نهاية كل أسبوع، ويوقظ أخويه "محمد" و"ربيع" مع باكورة الصباح، وفي يد كل منهما "صفيحة سمنة فارغة" يضرب عليها بعصي، ليبعدوا "العصافير" عن زهرة عباد الشمس، ويأخذ من والده "القروش" ليشتري "الطعمية السخنة" و"الحلاوة الطحينية" من رجل يبيعها على حمار، ثم يجلس على "رأس الأرض" ليأكلها. تتعالى صيحات الضحك مع أخواته عندما كان يجمع محصول القطن، وهو يغني "ع الزراعية يارب أقابل حبيبي .. يا قطن ياحرايري ياحزام أبو اسماعيل .. واللي مايزرعكش طول السنة حزين"، لتعيش أسرة حمدي على ما تجود به هذه الأرض من خيرات، حياة كريمة تقيها مهانة الجوع والعوز .. كانت الأرض المصدر الأساسي للأسرة، وأي حد فينا كان ينتظر موسم القطن عشان يتجوز". قُدر لهذا الشاب الجنوبي أن يشارك فى معركة "تحرير الأرض" في حرب العاشر من رمضان 1973، ضمن سلاح المشاة بقيادة الجيش الثالث الميداني، يقول:"شاركت أنا وأخويا في الحرب، وكان لنا شرف استرداد أرض سيناء، كنت رامي لاسلكي على دبابة برمائية عبرت قناة السويس، وكان أخويا في الجيش من حرب 1967". عاد الأخوان إلى حضن قريتهما، تحملهما أعناق الفلاحين الذين طاروا فرحًا لمن استرجعوا لهم الأرض والكرامة، عاد حمدي ليزرع الأرض التي حملت ذكريات الطفولة، راميًا شهادة دبلوم تجارة وراء ظهره "طلعت من الجيش ورجعت عشان أزرع". تمر السنون وتأتي الرياح بما لايشتهي حمدي، ويُصدم الفلاحون في ربوع المحروسة بقانون العلاقة بين المالك والمستأجر، يقول حمدي:"طردونا من أرضنا اللي ملكها لينا عبد الناصر، بسبب قانون العلاقة بين المالك والمستأجر في الأراضي الزراعية"، وفشلت كل محاولات استرجاع الأرض"، يضيف:" عملنا تظلم، لكن القوة العسكرية كانت أقوى، وأي حد هيروح الأرض ممكن يعتقلوه"، وشهدت بعيني فلاحًا لم يتحمل ضياع أرضه، اسمه "روبي" ولع في نفسه لما أخدوا أرضه". ضاقت الأرض بما رحبت في وجه حمدي وإخوته، فقرروا رغمًا عنهم أن يتركوا "صعيد مصر" في رحلة غير محسوبة العواقب إلى القاهرة، ليبدأ رحلة البحث عن لقمة العيش في العاصمة، يقول حمدي:"لما جيت القاهرة، اشتغلت في السوق .. أسطى محارة أمشي وراه، صنايعي سيراميك أمشي وراه، بعدها اشتغلت سايس جراج بالمنيل، وسكنت في العمارة اللي جنب الجراج، واشتغلت عليها بواب .. تخيل بواب مؤهلات". يتساءل حمدي – الذي يعيش عامه ال 54 – :"ليه لم يطبق نفس القانون على الشقق، رغم أن فيه شقق في أماكن راقية لسه بتدفع 20 جنيه؟"، لتكون إجابته:"في نفس العام اللي صدر فيه القرار، كان معظم أعضاء مجلس الشعب إقطاعيين، كلهم بهاوات، عبد الناصر كان واخد منهم أرضهم بعد الثورة"، ويضيف متعجبًا:"جيبنا أرض سينا من (حنك السبع)، يبقى مصيرنا يطردونا ويهجرونا من أرضنا". يشعر حمدي بالحنين الممتزج بالحسرة مع كل زيارة يقوم بها إلى قريته، عندما تمر"السيارة النص النقل" على الأرض التي حملت ذكريات الطفولة والشباب، يقول:"لما بمر على أرضنا، عيني بتدمع، اتحولت لجناين عنب وحولها سلك حديد شائك، فين الفول! فين القمح! فين الدرة! فين القطن!"، ليخرج من ذاكرته "ماتعورتش فى حرب 1973 لكن اتعورت من الفاس في الأرض، والدي وعمي وأجدادي اتصابوا بالفشل الكلوى بسبب البلهارسيا". رئيس مصر القادم لم تتضح رؤيته ل"حمدي" الذي يعول أسرة تكونت من الزوجة و7 من الأولاد بمرتب شهري 120 من مهنته "بواب عمارة" وعشرات الجنيهات من "الجراج"، وصوته الانتخابي سيذهب لأي شخص "يتبنى الفلاحين"، وحلم مابعد الثورة "النظر الحقيقي للفلاح العمود الفقري لهذه البلد، نريد تعويض عن الضرر اللي وقع علينا من قانون العلاقة بين المالك والمستأجر في الأراضي الزراعية". أما حلم مابعد استقرار مصر، يقول عنه حمدي:"هلم عيالي وأرجع البلد، يفرق معايا أرجع أرضنا ويحددوا القيمة الإيجارية، أو نأخد أرضًا بديلة، لما أجمع قرى المركز نقدر نعمل أى حاجة .. دا تار والتار لاينسى".