أخرج أحمد أن أبا جهل قال حين التقى القوم يوم بدر: «اللهم أقطعنا الرحم، وآتانا بما لا نعرفه، فأحنه الغداة». فكان المستفتح. وفى رواية أن أبا جهل كان يدعو ويقول: «اللهم انصر خير الدينين». وذكر المفسرون أن المشركين حين خرجوا إلى النبى صلى الله عليه وسلم من مكة أخذوا بأستار الكعبة، واستنصروا الله، وقالوا: اللهم انصر أعز الجندين وأكرم الفئتين وخير القبيلتين، فقال الله: ﴿إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح﴾ يقول: نصرت ما قلتم، وهو النبى صلى الله عليه وسلم ﴿وإن تعودوا نعد﴾ إن تستفتحوا الثانية نفتح لمحمد صلى الله عليه وسلم، ﴿ولن تغنى عنكم فئتكم شيئا ولو كثرت وأن الله مع المؤمنين﴾ أى محمد وأصحابه. إذن أبوجهل وإخوانه كذبوا حتى صدقوا أنفسهم، وزين لهم الشيطان أعمالهم، حتى إن أبا جهل يطلب من الله سبحانه وتعالى أن يبين اليوم وقوفه إلى جوار أصحاب الهدى ضد أصحاب الضلال، ولهذا استجاب الله تعالى له ونزلت الآية الكريمة! وأبو جهل يعلم بلا ريب أن ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم حق، وهو الذى قال كما فى سيرة ابن هشام: «تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف، أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تجاذينا على الركب، وكنا كفرسى رهان قالوا: منا نبى يأتيه الوحى من السماء، فمتى ندرك مثل هذه؟ والله لا نؤمن به أبدا ولا نصدقه» وفى هذا جاء قوله تعالى﴿وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتى رسل الله الله أعلم حيث يجعل رسالته﴾ (الأنعام: 124). إذن هو يعلم أن محمدا على الحق، لكن الرجل من شدة الحقد وظلام القلب لم يزل يكذب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى خيل له أنه صار على الحق، واختلطت الألوان أمام عينيه كما تختلط الألوان دائما أمام الظلمة فى كل وقت؛ فيرى الحق باطلا والباطل حقا. ولا تزال الليالى حبالى يلدن أبا جهل فى كل حين هذه صورة موجودة فى الحياة، تتكرر من وقت لآخر، وأحيانا يعجب الناس: ألهذا الحد اختلطت الصورة؟! ألهذا الحد لا يتبين الحق من الباطل؟! والحقيقة أن الحق واضح بين، ولكن الظالم لنفسه لا يزال يعاند الحق ويستكبر عليه ويكذب القائمين عليه، وينشر الكذب والأباطيل والشائعات المغرضة والباطلة وينفخ فيها؛ حتى يصل إلى قناعة شخصية بأن ما يقوله هو الحق، خصوصا حين ينقل هذا الباطل عنه نفر كثير؛ فيصدق نفسه وينسى أنه هو الذى اخترع هذه الكذبة!