فى مثل هذا اليوم، قبل أربعين عاماً، حقّق جيش مصر العظيم معجزة عسكرية بكل المقاييس، عندما عبر قناة السويس وحطم خطّ بارليف، الذى نامت إسرائيل مطمئنة إلى أنه يحتاج قنبلة نووية لإزالته، ولم تكن تتصور مثلاً أن يكون لدى هذا الشعب «عقلية نووية» تسكن رأس ضابط شاب يُدعى «باقى زكى»، بإذابة هذا المانع الترابى بالمياه. عبّر الجيش والشعب كله وراءه وقلوب أبنائه تتعلق بكل جندى وقائد شارك فى ملحمة أكتوبر، ويشاء التاريخ أن يسجل فى الظرف التاريخى الراهن، عبوراً مبهراً، كان يبدو مستحيلاً بتحطيم مانع، مثله مثل خط بارليف، بل أشدّ وأنكى، فى يونيو الماضى، ووقف جيش العبور العظيم جنباً إلى جنب مع شعبه. والواقع أن المحاولات الساعية إلى إحداث وقيعة بين الشعب وجيشه لم ولن تتوقف، لكن يبقى الرهان على وعى الشعب المصرى، الذى تُدرّس معاركه وانتصاراته فى الكتب والدراسات الأجنبية بما فيها الإسرائيلية. لدى الحديث عن أكتوبر وانتصاراته المبهرة، يَحشُر البعض، هزيمة يونيو، وكأنهم لو قُدّر وكانوا على رأس الدّولة، لكانت مصر قد حطمت الترسانة الحربية الأمريكية خاصة، والغربية على وجه العموم، ولحررت كامل التراب الفلسطينى!!! وأسأل هؤلاء، وبينهم الأستاذ فريد الديب المحامى، وقد قال إن أكتوبر جاء بعد «الذل؟» الذى كابدناه فى «هزيمة 56» و«هزيمة 67»، هل يجوز أن يتجاهل أحد، مهما كان عداؤه لثورة يوليو ولجمال عبدالناصر، ويحول الصمود المصرى ومقاومته الباسلة للعدوان الثلاثى بأطرافه، «إمبراطوريتى بريطانيا وفرنسا، ومعهما طبعاً إسرائيل»، إلى هزيمة؟ ولماذا يُغفل هؤلاء أن حرب بورسعيد تُدرّس كنموذج للمقاومة الشعبية، فى المناهج العسكرية الأجنبية؟ وكيف يقدرون على أن يغمطوا أبطال التصدى للعدوان الثلاثى حقهم؟ لقد شعرنا أيامها بالعزة والفخر ولذا خرج منها عبدالناصر بطلاً قومياً.. وتحديداً فقد كان الأداء المصرى، شعباً وجيشاً، وبزوغاً، بل وتجسيداً للتضامن العربى، عندما فجرت الجماهير العربية أنابيب النفط، من المحيط إلى الخليج، مؤشراً للعدو بضرورة التخلّص من عبدالناصر، ومن ثمّ تقليص الدور المصرى، فكان «عدوان 67»، الذى أرادوا منه أن نشعر «بالذُل» ولكن هذا الشعب وكعادته التى نعيش واحدة من تجلياتها، هذه الأيام، قلب الطاولة على رؤوس المعتدين، وخرج يعلن رفض الهزيمة، ومنها على وجه الخصوص رفض الذُل الذى أرادوا له أن يعيش فيه، وهنا يبرز السؤال الذى لا مفرّ منه، وهو هل كان العبور سيحدث لولا وقفة الصمود والكرامة الرافضة للهزيمة العسكرية فى يونيو؟ هل كان سيكون هناك أنور السادات أو حسنى مبارك، لو لم تقم حرب استنزاف، كنا نستنشق معها نسيم اليقين بالنصر؟ هل نسى أصحاب نظرية «الذُل» استشهاد مئات، وربما آلاف، الأبطال ومنهم على سبيل المثال الفريق عبدالمنعم رياض الذى سقط فى ساحة الشرف، وهو على الخطوط الأمامية للجبهة وسط جنوده؟ والقائمة تحتاج إلى سجلات وسجلات. وهل يعرف الذين يغفلون، عن حسن نية أو سوء قصد، أن جمال عبدالناصر هو الذى اختار حسنى مبارك رئيساً لكلية الطيران، وهو الذى اختار أنور السادات نائباً له، وهل يعرف من يصمّم على أننا عشنا الذل والهوان. إن «كل المذكرات» ما كان لها أن تصدر وأن تحتفل بإصدارها دار «نهضة مصر» للنشر، لولا استشهاد أطفال مدرسة بحر البقر وعمال مصنع أبوزعبل وتضحيات الشعب الذى آمن بقيادته وبقواته المسلحة.. باختصار شديد، هل كان يمكن أن يتحقق النصر العظيم لولا وقفة الشعب الواعى والقادر دائماً على فرز العدو من الصديق، وإصراره على العيش عزيزاً كريماً وإذاقة العدو مرارة الهزيمة، وقبلها ما كبدناه من خسائر فى حرب استنزاف، وصفها مسئول مخابراتى إسرائيلى بأنها أطول وأشرس وأوجع حرب خاضتها إسرائيل مع العرب، والتى لولاها لكان نتنياهو فى قصر العروبة؟ من يرى فى كل هذا التاريخ «ذُلاً» براحته، لكن الشعب قال كلمته.. ومن بين حروفها «30 يونيو» و«26 يوليو»، فى المرتين، الأولى والثانية، وكل عبور. إلى الأفضل ومصر بخير بإذن الله.