حلت ذكرى وفاة جمال عبدالناصر، وتدافعت الخواطر على ذاكرتى، لكننى دفعت الخواطر لأحاول تأمل ما قد تعنيه ذكرى رحيله، فى ضوء الصراع الذى تشهده مصر. وقد أصبح هناك حضور رمزى ملحوظ لجمال عبدالناصر، فى الخطابين السياسى والإعلامى، بالتوازى مع تصاعد الدعوات لإنهاء حكم الرئيس المعزول محمد مرسى. كان مرسى فى نظر كثيرين، حلقة جديدة من حلقات الصراع بين عبدالناصر والإخوان، وبالتالى بدأ البعض يتحدث بوضوح عن الحاجة إلى «عبدالناصر جديد»، وطبعاً كان هناك من رفع شعار إعادة الاعتبار للعصر كله، وهذا ما استوقفنى بشدة. ومن بين ما كان الداعون إلى حقبة ناصرية جديدة يؤكدونه أنه النقيض لسياسات التفريط فى الأرض التى تبناها محمد مرسى -والاتهام ما زال مرسلاً حتى يقول القضاء كلمته- وأحد أكثر رموز سياسة التفريط تكراراً أن الرئيس المعزول كان يخطط لتوطين الفلسطينيين فى سيناء. ولأننى لست ممن يستسهلون تكرار الأحكام القاطعة بناء على الهوى أو تكرار «ما يقال»، فقد عدت إلى أكثر من مصدر يؤرخ لعلاقة جمال عبدالناصر بفلسطينيىغزة، بحثاً عن الخلفيات التاريخية لفكرة توطين الفلسطينيين فى سيناء وموقف «الزعيم» منها. وقد وجدت ما يستحق أن يشاركنى القارئ تأمله. فعندما كان القطاع تحت الإدارة المصرية، كان الوضع السياسى المصرى ينعكس على علاقة الإدارة المصرية بالفصائل السياسية المختلفة، وعندما ساءت العلاقات بين عبدالناصر والإخوان المسلمين (1954)، كان رجال الحاج أمين الحسينى، مفتى فلسطين، ينظرون بريبة لعلاقة الحكومة المصرية بمشاريع توطين الفلسطينيين. وحتى عام 1955 كانت هذه الريبة تفسر فى إطار تعاطف إسلاميى فلسطين مع جماعة الإخوان المسلمين فى مصر. غير أن الشيوعيين الفلسطينيين استطاعوا أن يحصلوا، عن طريق موظفة فى الوكالة الدولية لغوث اللاجئين (سميرة سابا)، على مشروع تم الاتفاق عليه بالفعل بين الحكومة المصرية والوكالة، يقضى بتوطين الفلسطينيين فى العريش. وقد امتدت عملية إعداد المشروع من نهاية يونيو 1953 (تاريخ توقيع الاتفاق) إلى 28 يونيو 1955. وقام الشيوعيون بطبع خمسة آلاف نسخة من المشروع وتوزيعه على الجماهير التى خرجت غاضبة فى مظاهرات شملت القطاع كله. وكان الغضب شديدا، فاشتركت كل فئات المجتمع فى المظاهرات، التى بدأت مع مطلع مارس 1955، وقام المتظاهرون بإحراق مخازن الأممالمتحدة وتوجيه إهانات للجيش المصرى، وكان الشعار الرئيسى الذى رفعه المتظاهرون «لا توطين ولا إسكان يا عملاء الأمريكان»، كما رفعت شعارات أخرى تتهم عبدالناصر بالخيانة. وقد تصدى الجيش المصرى عام 1955 للمتظاهرين بقسوة، فقتل وجرح عديدين وأُعلنت الأحكام العرفية، لكن الفلسطينيين استمروا فى التظاهر عشرة أيام. ثم شُكلت لجنة ترأسها شيوعى وإخوانى (معين بسيسو وفتحى البلعاوى)، قدمت للإدارة المصرية عدة مطالب فى مقدمتها إيقاف مشروع التوطين فى سيناء وإطلاق الحريات ومحاكمة المسئول عن إطلاق الرصاص على المتظاهرين، والتعهد بعدم ملاحقة من اشتركوا فى المظاهرات، وأعلنت الإدارة المصرية قبول المطالب، ثم اعتقلت قادة المظاهرات! واستمر الاعتقال أكثر من سنتين، ولم يصدر قرار الإفراج عنهم إلا بعد انسحاب الجيش المصرى من غزة (يوليو 1957)! لقد كان استدعاء جمال عبدالناصر طبيعياً فى سياق لحظة صراع حاد -وإن كنت أخالف موقف من استدعوه مخالفة تامة- فهو ليس الحل ولا النموذج ولا «الزعيم الخالد» كما يصفونه. لكن محاولة تصويره بوصفه النقيض لموقف الإخوان أو الرئيس المعزول من قضية توطين الفلسطينيين، هو مسعى تكذبه وقائع التاريخ. ومن المؤكد أن هذا لا يعنى قبولى أنا شخصياً لهذه الفكرة على الإطلاق. وهناك من يرى أن موقف جمال عبدالناصر من القضية الفلسطينية تبلور بالتدريج، حتى جاءت «حادثة غزة» فى فبراير 1955، وما تلاها من تداعيات، أهمها «صفقة الأسلحة التشيكية»، وموقف عبدالناصر الذى تبلور بالتدريج لم يكن أبداً مبرراً لاتهامه بالخيانة قبل 1955، وفى إطار هذا الموقف نفسه اعتبر كثيرون -وبينهم فلسطينيون- أن إعلان جمال عبدالناصر قبوله «مبادرة روجرز» دليلاً على خيانته!! ولقد كان كثيرون ممن يعرفون انتمائى الإسلامى، يبدون دهشة من انتقاداتى اللاذعة للإخوان وللرئيس المعزول منذ «الإعلان الدستورى»، لكننى أفضل دائماً أن يكون انحيازى لقيمة الحرية ولما تؤيده الحقائق، ولذا فإننى أشعر بأن تزويراً كبيراً للمعطيات التى تأسست عليها هذه الثنائية: الإخوانية/ الناصرية الخادعة، فالتجربة مصر تحت حكم عبدالناصر، فيها الكثير مما يعد الإحجام عن إدانته «عواراً أخلاقياً»، وفيها الكثير مما يعد استدعاؤه مؤشراً على نكوص عن قيم كنا نحسب أن الناصريين قاموا بمراجعة موقفهم منها. والقول إن وطنية عبدالناصر ومواجهته للغرب تكفى ليكون «الزعيم الخالد»، وإنها وحدها تبرر هذا الاستدعاء وهذا الإلحاح. هذه القناعة تساوى بالضبط قناعة بعض المتدينين بأن الدور الدعوى لجماعة الإخوان التى تربى كوادرها على أن الله «أعزها بعز الدعوة» يغفر لها فشلها السياسى الكبير!! يا سادة لا التدين ولا الوطنية تمنح أحداً صكاً على بياض، ورب العزة وحده هو من يختار من ينطبق عليه القول: «غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر».