غداً تحل الذكرى الستون لثورة 23 يوليو عام 1952 بقيادة جمال عبدالناصر.. منذ السنوات وربما الأشهر الأولى اتضحت ملامح الانقلاب العسكرى بظهور بشائر ثورة عميقة الجذور انحاز قائدها انحيازاً كاملاً وصادقاً للفقراء والمعدمين.. لذلك دخلت الثورة معارك لا حصر لها فالمحيط الإقليمى والقوى العظمى التى تساندها كان يستحيل عليهم القبول بزعيم ينفض عن الوطن غبار الظلم الاجتماعى ويزيل فجوة اجتماعية مهينة ويدخل فى معارك ضد الاحتلال البريطانى ويحقق الاستقلال، وذلك كله وغيره بمساندة الأغلبية الساحقة من المصريين لإيمانهم بعدالة هذه المعارك.. وإذا أراد أحد أن يفصل فى الحقبة الناصرية فلن تكفيه آلاف الصفحات وذلك لأنها كانت حقبة ثرية بكل ما تحمل الكلمة من معانٍ فقد كنا نخوض معاركنا وفى ذات الوقت نبنى بلداً تصدر فى سنوات معدودة مقدمة الدول وأصبحت كلمتنا مسموعة ومهابة، ولكن الأهم أن الوعى بخطورة العدو لم يغب عنا لحظة.. جرى إذن المخطط ضد يوليو وقائدها وكانت إسرائيل الذراع القذرة كالعادة فشنت علينا عدوان 5 يونيو 1967، «بأمل» إزاحة عبدالناصر وفرض التقوقع على مصر بعد إقصاء زعيمها ومن ثم ضمان «ضمورها» وبالتالى انكماش دورها الطليعى إقليمياً ودولياً، حيث كانت مصر النموذج لدول العالم الثالث، هذا العالم الذى أيقظت الثورة المصرية وعيه بمدى نهب ثرواته وسرقة مستقبل أجياله.. انتفضت جماهير الشعب فى مصر والعالم العربى وأعلنت بأعلى صوت وأصلب عزيمة وأعمق إصرار تمسكها بيوليو الثورة وقائدها فكان الذهول هو الغالب لدى الأعداء، لأن ما حدث مساء 9 يونيو لم يكن فى الحسبان بالمرة ولا أظهرته أذكى أنواع الكمبيوتر.. بعد التقاط الأنفاس عادت ريما لعادتها القديمة وكثفت إسرائيل ومن يساندونها من العدوان والبطش إلا أنها ارتطمت بحائط حرب الاستنزاف الفولاذية والتى تتعرض لتعتيم مريب مع أنها كانت طريق العبور فى حرب أكتوبر المجيدة.. وبعد رحيل عبدالناصر أصدرت واشنطن «فرمانا» يقول: «لن نسمح بظهور ناصر آخر»! وتوهمت أن الانقلاب على الثورة ومبادئها وتغيير الخريطة الاجتماعية أدوات فعالة وحاسمة فى محو يوليو وقائدها من الذاكرة الوطنية والوجدان الشعبى.. تعرض جمال عبدالناصر لأشرس حملة ربما فى التاريخ وكانت أدواتها «الداخلية» لا تقل شراسة عن أدوات الخارج، غير أن عبدالناصر يظهر فى ميدان التحرير بعد أكثر من أربعين عاماً على رحيله وثوار يناير يرفعون شعار العدالة الاجتماعية التى كانت جوهر ثورة يوليو.. وكان هؤلاء الثوار هم أبناء وأحفاد جيل يوليو الذى عض بالنواجذ على المبادئ والقيم خلال عقود اختلت فيها كل الموازين.. نعم، سنحتفل بيوليو وثورة 1919 وثورة يناير وكل لحظة كفاح من أجل تحقيق شعار: «ارفع راسك فوق إنت مصرى».. ويبدو أن قدر ثورة يوليو أن تظل هدفاً للأعداء وهذه شهادة لها بأنها ثورة شعب شديد الوعى!