كلما هدأت الأوضاع الأمنية والسياسية فى قطاع غزة، تهب رياح عاصفة لتقتلع أسباب هذا الهدوء، بالكاد تدخل غزة فى مرحلة المصالحة المضنية لترسى قواعدها على أرض صلبة قوامها الوحدة والتماسك بين كافة الفصائل الفلسطينية، بعيداً عن الخلافات والتجاذبات والتفاصيل التى تفسد أى لحظة توافق ممكنة، فتأتى صواريخ الاحتلال وغاراته العدوانية لتفجر الأوضاع من جديد لتكون بمثابة إعلان حرب صريحة واستنفار روح المقاومة التى لن تتهاون فى الرد للثأر ورد الاعتبار. لقد كان قصف نفق للمقاومة الفلسطينية شرق غزة وسقوط الشهداء والجرحى زعماً بأنه اختراق للسيادة الإسرائيلية المبرر الواهى الذى اختلقته إسرائيل فى المكان والزمان الخطأ، لأنه إعلان حرب واضح من قبَل إسرائيل لن يمر مرور الكرام بالنسبة للمقاومة الفلسطينية وحركة الجهاد الإسلامى بالتحديد نظراً لسقوط شهداء وجرحى من عناصرها، فقد جاء التصعيد الإسرائيلى المفاجئ فى مرحلة حساسة ودقيقة بهدف خلط الأوراق وتوجيه الأنظار إلى سلاح المقاومة بافتعال حالة من التوتر والاحتقان وإعلان حالة التأهب والاستنفار فى قطاع غزة. الاحتلال الإسرائيلى نواياه تفضحه لأنه يستهدف المصالحة قبل الوصول إلى محطة بالغة الأهمية فى برنامج المصالحة وهى تسليم معابر قطاع غزة للسلطة الفلسطينية، فهو يعتبر الفصل بين الضفة الغربية وقطاع غزة أحد أهم المكاسب الاستراتيجية بالنسبة له، فلم يكن هناك ما يشير إلى أى تصعيد أو نية للعدوان والمؤشرات كانت توحى بالهدوء لكن التصعيد المفاجئ أفسد الهدوء وأدخل القطاع فى حالة استنفار وترقب بما يعنى أن إسرائيل تريد جر قطاع غزة إلى مواجهة جديدة للقضاء على المصالحة أو إمكانية تنفيذها بعد تسليط الضوء على سلاح المقاومة وإجبار الأطراف المتحاورة بوضعها على جدول أعمال المصالحة، وهو الأمر الأكثر حساسية لجميع الأطراف والقادر أيضاً على إفشال أى اتفاق فيما لو تم التطرق إليه أو تسليط الضوء عليه. الغريب أن إسرائيل تأخذ زمام المبادرة بالعدوان والتصعيد واستفزاز الفصائل متى شاءت، ومن ثم تطالب الجهات المعنية بلجم ردود الفعل للمقاومة، وتبرر لمصر الراعية للمصالحة والمجتمع الدولى بأنها غير معنية بالتصعيد لإحراجها كونها تدافع عن سيادتها وحدودها! رغم أن هدفها جر المقاومة لمربع الحرب، خاصة حركة الجهاد الإسلامى وجناحها العسكرى «سرايا القدس»، لأنها تعى جيداً أنه سريع الرد ولن يسكت مثلما فعل فى معركة «كسر الصمت» عام 2014، وفى هذه الحالة فإن الاحتلال الإسرائيلى يختبر صبر المقاومة ويحاول فرض هدنة مجانية يقصف من خلالها مواقع فلسطينية ويعتدى كيفما شاء ويقتل دون رد، وهو الأمر الذى يمثل اختباراً للمقاومة وقدرتها على التماسك وتفويت الفرصة على ألاعيب الاحتلال، بل يحاول وضعها أمام خيار واحد وهو الرد لحماية الفلسطينيين فى غزة وردع الاحتلال وضرب العمق الإسرائيلى بذات الطريقة التى ضرب بها الجيش الإسرائيلى عمق قطاع غزة. اعتاد الاحتلال الإسرائيلى استهداف قطاع غزة فى سلسلة من الاختراقات الأمنية على صعيد اغتيال المقاومين وعمليات التوغل والقصف الجوى لمواقع المقاومة فى وقت لم ترد فصائل المقاومة للحفاظ على التهدئة، لكن عملية «كسر الصمت» التى أطلقتها «سرايا القدس»، الجناح العسكرى لحركة الجهاد الإسلامى، فى الحرب العدوانية على غزة عام 2014 نجحت فى استعادة قواعد اللعبة لردع الاحتلال، عنصر المفاجأة الذى استخدمته «سرايا القدس» فى «كسر الصمت» قلب الموازين وجعل الاحتلال يتخبط ويدخل فى دائرة القلق، فكانت العملية رداً على اعتداءات الاحتلال الإسرائيلى ضد قطاع غزة مستهدفة المستوطنات المحيطة بالقطاع، وهو أمر يوجع إسرائيل، لذا لم يكن من قبيل الصدفة افتعال إسرائيل للأزمة لإجبار المقاومة الفلسطينية على الرد وطرح موضوع سلاحها فى بؤرة الاهتمام الإقليمى والدولى، خصوصاً أن الحديث عن ضرورة نزع سلاح المقاومة يتصاعد مع المفاوضات الجارية بشأن تنفيذ بنود المصالحة وهى قضية ليست للنقاش أصلاً وتعتبر خطاً أحمر بالنسبة ل«حماس» لا يجوز الاقتراب منه. لقد أعطت عملية «كسر الصمت» عام 2014 درساً قوياً لإسرائيل بأن المقاومة من الممكن أن تقبل بالتهدئة لكنها تستطيع أيضاً الرد على أى عملية اغتيال متى شاءت، ونجحت «سرايا القدس» فى هذه المعركة من خلال استطاعتها إطلاق قذائف من مناطق تحت الأرض لم تكتشفها التكنولوجيا الإسرائيلية ولا طائرات استطلاعها، كما أن سرعة اتخاذ القرار وقدرة «سرايا القدس» على إطلاق عدد كبير من الصواريخ فى أقل من 20 دقيقة بمعركة «كسر الصمت» كان عنصراً مفاجئاً فى المعركة، وإن كانت إسرائيل لم تفاجأ برد «سرايا القدس» بقدر مفاجأتها بحجم الرد وجرأة الاستعداد لإطلاق عملية قد تكون مفتوحة. فهل تريد إسرائيل جر حركة الجهاد الإسلامى وجناحها العسكرى لمعركة «كسر الصمت 2» بالاعتداء المفاجئ على مواقعها؟ فمن جهة تحاول إسرائيل استدراج المقاومة للرد لإفشال المصالحة التى لا ترضيها وتشكل خطراً عليها سياسياً وأمنياً، ومن ناحية أخرى تحاول تسليط الضوء على سلاح المقاومة لتقول للمجتمع الدولى بأنها تشكل خطراً داهماً على أمنها وحدودها ولا بد من نزعها إذا ما سارت الأمور عكس رغبتها وقفزت المصالحة على كافة الألغام التى تضعها فى طريقها! فضلاً عن الوقيعة بين فصائل المقاومة وبالذات «الجهاد الإسلامى» و«حماس» لإحراج الأخيرة فى وقت تتلمس خطواتها نحو مصالحة شاملة تفتح آفاقاً جديدة لمشاركة واتحاد مع كافة الفصائل الفلسطينية تنضوى تحت لواء الوطن الموحد والسلطة الواحدة.