لم أكن يوماً من مريدى البرادعى حتى عندما تحول إلى مزار يتحلق حوله المريدون من مثقفين ونشطاء. ومع ذلك غضبت علناً عندما منعه حزب النور السلفى من تولى رئاسة الوزارة المؤقتة للمرحلة الانتقالية الثانية، وهى وظيفة اعتبرته مؤهلاً لها بجدارة. ولكننى الآن قام لدىّ تحفظ جوهرى على أدائه كنائب رئيس مؤقت بسبب تصريحاته لجريدة الواشنطن بوست. ومن حسن الطالع أن تصريحات الفريق السيسى للصحيفة ذاتها فى اليوم التالى أعادت الأمور إلى نصابها الصحيح. لا ينكر فضل د. محمد البرادعى على إثراء مقاومة الحكم التسلطى الفاسد فى مصر منذ نهايات عصر محمد حسنى مبارك والعنت الذى تحمله بسبب دوره ذلك، إلا جاحد أو موتور. وأقول نهايات العصر لأن البرادعى كان قبيل ذلك ضمن النظام، رشحه لمنصب دولى رفيع ثم منحه أعلى وسام فى الدولة. لكن هذا الفضل، فى حد ذاته، لا يؤهل البرادعى لأن يكون زعيم ثورة شعبية أو حتى مرشدها، بسبب سمات تكوينية ذهنية ومزاجية لا يستطيع الرجل لها دفعاً، وقد تقوده فى ظنى للإضرار بمسار الثورة الشعبية العظيمة. ما برع فيه الرجل، وساهم فى تشكيل بنيته الذهنية والمزاجية، وأكسبه جائزة نوبل للسلام، هو أن يكون وسيط التفاوض بين أضداد على الساحة الدولية التى تهيمن عليها منفردة قوة أكبر لا مناص من إرضائها. وبذلك توسط بين الولاياتالمتحدة من جانب وبين من كانت الإدارة الأمريكية تعرّفهم على أنهم دول أشرار موارق مثل كوريا الشمالية والعراق تحت صدام حسين من جانب آخر. بنية شخصية البرادعى فى ظنى هى بامتياز المفاوض الذى يتبنى منطق النفعية العملية (البراجماتية)، لا شك فى إطار من القيم المثالية العليا مثل حقوق الإنسان. وليست النفعية العملية من منطق الثورة فى شىء! منطق الثورة شىء آخر تماماً. الثورة لكى تصح لا بد من أن تقطع مع بنى قانونية ومؤسسية فاسدة وخبيثة، تهدمها وتقيم محلها أخرى طيبة وسليمة تضمن نيل غايات الثورة فى الحرية والعدل والكرامة الإنسانية. ولا تحتمل هذه المهمة التاريخية التوفيق بين ما قامت الثورة لنقضه وما قامت لإقامته، فهما نأيان لا يلتقيان. ولا ينتج عن عقلية التوفيق هذه إلا تعطيل الثورة وانحرافها عن غاياتها. ولنضرب مثلاً من التاريخ المصرى المعاصر. لنتصور أن ثورة 1952 تبنت منطق التوفيق بين الاحتلال البريطانى ونزوع الشعب المصرى العارم إلى الاستقلال الوطنى الذى لا يتحقق إلا بالتخلص من الاستعمار الأجنبى. لو حدث هذا، فأغلب الظن أنه كانت ستبقى قواعد عسكرية بريطانية فى مصر حتى الآن. ولكن المنطق الثورى أنهى وجودها منذ ستين عاماً. مما يزيد من غُرم دعوة البرادعى لخروج آمن للإخوان المخادعين بعد أن اسقط الشعب، بدعم من قواته المسلحة، سلطتهم الفاشلة والظالمة، هو تزامنها مع حملة سياسية أمريكية، لا يمكن تفسيرها إلا بأنها ردة فعل الصقور فى الإدارة الأمريكية على تصريحات وزير الخارجية الأمريكية فى باكستان التى اعترف فيها بطبيعة الموجة الثانية من الثورة الشعبية فى مصر كمقدمة لتصحيح مسار الثورة على سبيل الديمقراطية السليمة، بعد أن اختطفها اليمين المتأسلم فأعاد نظام الحكم التسلطى الفاسد الذى قامت الثورة لإسقاطه، فقط متشحاً بغلالة إسلامية رقيقة وزائفة. ويقترن بهذه الحملة الزيارة المفاجئة لنائب وزير الخارجية الأمريكى وليام بيرنز وتزامنها مع تصريحات البرادعى والإعلان عن تعيين الولاياتالمتحدة روبرت فورد سفيراً جديداً لها فى القاهرة بعد أن أحرقت سفيرة السوء باترسون مصداقيتها بالتحيز السافر لجماعة الإخوان. ومعلوم أن السيد فورد سيئ الصيت لعلاقته الوثيقة بالمخابرات المركزية الأمريكية ودوره المشين فى بث الفتنة الذى انتهى بتدمير سوريا وتقويض جيشها. فشلت باترسون فى دعم المسار الباكستانى فى مصر بسبب يقظة الشعب وجيشه، فليسعَ فورد إذن لتمزيق البلد كما فعل فى سوريا. كل هذه الخيوط تتجمع لتشير إلى جهد أمريكى دؤوب لدعم حكم اليمين المتأسلم فى مصر يستهدف الانقضاض على الثورة الشعبية فى مصر ومنعها من استكمال المرحلة الانتقالية الثانية بسلام، ويضفى مصداقية على ما عبّرنا عنه فى مقال سابق من أن الخطة الخفية لسلطة اليمين المتأسلم فى حكم مصر كانت تمزيق البلد الآمن وتقويض دولته، وهدم جيشه، خدمة للمشروع الاستعمارى الصهيونى فى المنطقة العربية. للدكتور البرادعى وغيره من أولى الأمر فى مصر الآن نقول: قليل من المثالية الثورية، يرحمكم الله!!