وسط ساعات وحدتها، تجد الدكتورة ابتهال يونس متعتها وسلواها، في استحضار ذكراه. لا تزال محتفظة ب"بيجامة" و"روب" زوجها دون "غسيل" منذ وفاته، أملا فى الاحتفاظ برائحة جسده فيها، وتقول أنها ستؤدي فريضة الحج هذا العام، وتهب الحجة إلى روح زوجها. صوره التى تزين حوائط المنزل، تجسد تاريخ حياة زوجها وكأنها أمام شريط سينمائى، منذ كان طفلا يساعد والده فى "محل البقالة"، وحين انضم إلى أشبال جماعة الإخوان المسلمين، لتكون بوابته للقاء المرشد العام للجماعة حسن الهضيبى، أثناء زيارته إلى طنطا. وقف نصر حامد أبو زيد، طفلا يهتف بصوت جهورى: «الله أكبر ولله الحمد، القرآن دستورنا، والرسول إمامنا، والموت فى سبيل الله أسمى أمانينا»، ليطبع المرشد العام قبلة على جبينه، ويكافئه ببوصلة تهديه إلى مكان قبلة الصلاة أينما حل، فيذهب الطفل متباهيا ببوصلة المرشد وقبلته، إلى مقر الجماعة فى مدينة المحلة الكبرى، ويصر على إدراج اسمه فى كشوف الأعضاء "الكبار"، قبل أن يكون ذلك سببا في اعتقال "الطفل" بين من اعتقلهم نظام الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، فى العام 1954، لكنه لم يمكث في الحجز سوى يوم واحد، بعدما علم الضابط قصة إدراج اسمه بين كشوف الأعضاء "الكبار"، بينما هو لا يزال طفلا. وعن أيام شبابه الأولى، تقول زوجته، قرر تغيير مصيره، فتحول من طالب في المدرسة الثانوية الصناعية، إلى طالب بقسم الفلسفة فى كلية الآداب، قبل أن يتركه بعدما رأى أن مدرس الفلسفة "يقرأ من الكتاب" خلال المحاضرة، فتحول إلى قسم اللغة العربية. "تفجرت موهبته الشعرية مذ صغره، وكانوا يطلقون عليه صلاح جاهين المحلة" حسب قول زوجته، التى تشير إلى أنه كان دائم الحصول على المركز الثانى فى المسابقة الشعرية بكلية الآداب، لأن المركز الأول كان محجوزا للشاعر الثائر زين العابدين فؤاد. تستعيد الدكتورة ابتهال يونس، ذكرياتها مع أبو زيد، عند إعدادها لأوراق بحث مقارنة فى رؤية العالم، عند ابن عربى والمتصوفة بصفة عامة، من جانب، والكاتب الأرجنتينى بورخيس، من جانب آخر، حيث قرأت له كتاب «فلسفة التأويل». لكنها تقول أن تقاربهما الحقيقى بدأ خلال مؤتمر "طه حسين" فى إسبانيا، حين أعجبت بالورقة البحثية التى قدمها أبو زيد، فاقتربت منه، وعرفته بنفسها، وعندما طلبت نسخة من الورقة، رد بابتسامة عريضة فيها من التواضع واللطف، ما جعلها تقترب منه أكثر، «كان يحترم المرأة فعلا، كثير من السيدات أو الآنسات كانوا يشعرون بالأمان مع نصر» تقول زوجته، حتى سألها ذات يوم، «ليه ماتجوزتيش لحد دلوقتى؟»، فردت: «بتسأل ليه؟ عندك عريس؟»، فيرد نصر مبتسما «أنا». وعن الجانب الديني، الذي اتهم فيه أبو زيد، تقول زوجته: عندما دعى أبو زيد لحضور مؤتمر فى ألمانيا، شهد هجوم "تسليمة نسرين" على الإسلام، أمام عدد كبير من الشيوخ، ولم يتصد أى منهم لها، سوى أبو زيد، الذى وصف هجومها بأنه ينم عن جهل بالدين الإسلامي. وفى محاضرة بهولندا، قال أحد الحضور الأجانب: «نقدر نعمل لكم إيه؟»، فأجابه أبو زيد: «حلّوا عن ديننا فقط». تستحضر الدكتورة ابتهال ذكرياتها، وأبو زيد، مع شهر رمضان، ونحن على أعتابه، فتقول: كنت استغل صوته الأجش، لنقرأ معا جزءا من القرآن الكريم، قبيل صلاة المغرب، ليتما ختمته قبل نهاية الشهر، وفى كل مرة يقول مداعبا: «كفاية ريقى نشف»، لافتة إلى أن سورتي الرحمن والنجم، كانتا الأقرب إلى قلبه. وتضيف: زارني أحد تلامذته، بعد وفاته، وأهداني مصحفا شريفا، وقال لى: لم أجد أغلى من كتاب الله الذي أفنى أبو زيد عمره من أجله. «هو أنا ليه لما بعمل السمك المشوى مش بيطلع حلو زي ما بتعمليه»، ذكرياتها معه، تطاردها حتى فى "مطبخها"، إذ لا تزال تحتفظ بورقة صغيرة كتب عليها بخط يده، المقادير اللازمة لتجهيز السمك قبل الشوي «توم ولمون وملح وكمون». كان يجد فى كلمات الشاعر صلاح عبد الصبور وصفا دقيقا لشخصيته: «أنا رجل من غمار الموالي، فقير الأرومة والمنبت، فلا حسبى ينتمي للسماء، ولارفعتني لها ثروتي، ولدت كآلاف من يولدون، بآلاف أيام هذا الوجود لأن فقيرا بذات مساء، سعى نحو حضن فقيرة، وأطفأ فيها مرارة أيامه القاسية». تشير إلى عشقه لملامح "تركيبة" شخصية الرسول عليه الصلاة والسلام، إنسانيته ويتمه وفقره، وتلمح إلى قربه من فكر ابن رشد، وعبد القاهر الجرجانى مؤسس علم البلاغة، ثم تحكى عن محى الدين بن عربى، الذى تصفه ب«ضرّتها»، إذ كان أبو زيد حريصا على حفظ كلماته، «لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي، إذا لم يكن دينه إلى ديني داني، وقد صار قلبي قابلا كل صورة، فمرعى لغزلان وبيت لأوثان، ودير لرهبان وكعبة طائف وألواح توراة ومصحف قرآن، أدين بدين الحب أنى توجهت ركائبه فالحب ديني وإيماني». «مشكلتنا كعرب فى اعتقادنا بأن القرآن بتاع أبونا، رغم أن العرب أقلية وسط المسلمين»، مقولة لأبوزيد، لم تزل "رنتها" من أذن زوجته حتى اليوم، إلى جانب كلمات كثيرة، مثل قوله: «أنا حلقة فى مشروع نهضوى بدأه ابن رشد وتبعه الطهطاوى ومحمد عبده وأمين الخولى وطه حسين»، «سيبوا الإخوان يعملوا حزب سياسى، سيبوا الشعب يتذوق الفاكهة المحرمة». تؤكد الدكتورة ابتهال: لو كان أبو زيد عايش كان هيبطل صوته زى ما أنا عملت فى جولة الإعادة، رغم أنه نشأ وتربى فى حضن جماعة الإخوان المسلمين. تحفظ ابتهال يونس، كلمات صديق زوجها، الشاعر زين العابدين فؤاد، إذ يقول عنها، تحت عنوان "السكن تحت الجلد"، تتعب من السفر القريب والبعيد، تغير العنوان مع القمصان، تترك حيطان السكن تنفض عباية البدن، تلمح عينيك فتحة فى جلد الإيد تضحكلها وتمر، شايله يمينك كتابك شايله الشمال "ابتهال" واللى اتسرق من العمر، نفسك دفا فى رقبتى وعنيك تسابق كتابتى وتحط فصلة نسيتها ونقطة آخر السطر، ينده عليك الصحاب، ترجع فى صفحة كتاب، تنده عليك "ابتهال" ترجع فى رد السؤال، ينده عليك الوطن، تركب حصان الزمن، وتعود علامة نصر. أخبار متعلقة: "علامة نصر" لتوثيق سيرته .. وزوجته تؤسس "أبو زيد" للدراسات الإسلامية نصر حامد أبو زيد.. "نصفوك" فقالوا: مفكر "الاستنارة" المصرية 13 كتابا لأبو زيد.. كفّرته ونفته وفرّقت بينه وبين زوجته نصر أبو زيد.. الباحث الذي كفّرته "العمامة" حيا واستكثرت عليه الرحمة ميتا باحث سعودي أنصف أبو زيد علميًا بدراسة وحيدة نصر حامد أبو زيد.. رجل "التفكير في زمن التكفير"