وقف «الحسين بن على» أمام باب خيمته فى كربلاء، وحيداً بعد أن انفض الناس من حوله، قبل سويعات من استشهاده، وقال عبارته الشهيرة: «الناس عبيد الدنيا. والدين لعق على ألسنتهم، يحوطونه ما درت معايشهم، فإذا محصّوا بالبلاء قل الديانون». إنها العبارة التى لخصت فلسفة الثائر النبيل، عندما خرج ليواجه ما بدا له شديد الخطورة على مستقبل الأمة، والمتمثل فى الانتقال من عصر الخلافة الراشدة، الذى أقام الدنيا على قيم الدين، إلى عصر الملك العضوض (الوراثى)، الذى يقفز على قيم الدين، من أجل الحصول على مغانم دنيوية. انتهى الأمر ب«الحسين» إلى أن يقف وحيداً غريباً فوق أرض لا يعرفها، ليدفع حياته ثمناً لإيمانه بقضيته، ومن لحظة استشهاده بدأت المأساة الكبرى فى تاريخ المسلمين، التى ما زلنا نعانى من توابعها ونتائجها حتى اليوم. تلك المأساة التى بدأ فصلها الأول بتنازل الحسن بن على عن الخلافة ل«معاوية». تلك الخطوة التى قام بها «الحسن»، خوفاً من إزهاق المزيد من أرواح المسلمين فى الصراع على الحكم، فى حين نظر إليها «معاوية» كخطوة واجبة من أجل الصالح العام للدولة المسلمة، التى لم يكن يستطيع أن ينهض بعبء حكمها آنذاك سوى شخصه. والتحليل المتأنى للمشهد التاريخى يفرض علينا أن نقرر أن هناك أسباباً عديدة وجيهة دعت الحسن إلى التنازل عن الخلافة، أولها خذلان من حوله له، بعد أن أصبحوا بين قتيل بصفين (المعركة التى وقعت بين على ومعاوية) يبكون له، وقتيل بالنهروان (المعركة التى وقعت بين على والخوارج) يطلبون ثأره، وثانيها رغبته الصادقة فى حقن دماء المسلمين، حتى ولو كان فى ذلك حماية لنفس مسلمة واحدة، كان الحسن يعلم جيداً أن «من أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا»، وثالثها الارتكان إلى قاعدة: «الزمن كجزء من العلاج»، فقد أجّل الحسن المسألة إلى حين يقضى الله أمراً كان مفعولاً فى «معاوية» الذى كان يسير فى طريق الشيخوخة، لينال الحكم من بعده، لكن روح الحسين الثائرة أبت هذا الرأى، حين قارنت بين طبيعة الحكم فى عهد الراشدين، والذى استند فى الأساس إلى أحكام الدين، والتحول الانقلابى الذى يمكن أن يحدث فى نظام الحكم، إذا آل الأمر إلى «معاوية وآله»، حيث سيصبح لقوانين الدنيا وألاعيب السياسة وسيوف القهر الكلمة العليا فى الأمر. وقد صدقت رؤية «الحسين»، فمات الحسن بن على مسموماً (عام 49 ه)، أى بعد ثمانى سنوات من خلافة معاوية (عام 41 ه)، وكانت الشيخوخة قد بدأت تدب فى الخليفة، وأخذ يميل إلى تبنى فكرة توريث الحكم من بعده لولده «يزيد بن معاوية». وربما كان اختفاء «الحسن» خطوة أساسية لإنجاز هذا الهدف، فى ظل الاتفاق المبرم بينه وبين معاوية، حين تنازل له عن الخلافة، مقابل أن يؤول الحكم إليه بعد وفاة معاوية. لم يكن «الحسين» راضياً منذ البداية عن تنازل «الحسن» عن الخلافة ل«معاوية»، وقد سبق وأشرنا أن لسانه لم ينطق ببيعة يزيد، بل كل ما حدث أن معاوية جمعه وكبار أبناء الصحابة بالمسجد وخطب فى الناس، وقال لهم إن هذا الجمع من الكبار قد بايعوا «يزيد». وبعد أن مات معاوية لم يكن ل«الحسين» أن يسكت على هذا التحول الخطير فى تاريخ الإسلام، خصوصاً أنه كان يعلم من أمر «يزيد» ما يعلم، وكان يرى أن صالح المسلمين فى الدين والدنيا لن يستطيع أن ينهض به هذا الرجل، وقد شرع الكثيرون فى دعوته إلى الوقوف فى وجه هذا الانقلاب الخطير. فبمجرد أن تولى «يزيد»، بدأت الرسائل تتدفق إلى الحسين بن على من جانب أهل العراق، يدعونه فيها إلى القدوم إليهم، ليقودهم فى معركة إعادة الوجه الناصع للخلافة الراشدة، مال «الحسين» إلى إجابة هذه الدعوة، وأخذ يعد العدة للمسير نحو العراق. وتشير كتب التاريخ إلى أن الكثير من كبار أبناء الصحابة حاولوا إثناء الحسين عن التحرك لرحلته تلك، ونصحوه بالمكوث فى مكة، وكان على رأس هؤلاء «ابن عباس» و«أبوسعيد الخدرى». ويشير صاحب «البداية والنهاية» إلى أن «الحسين» بدأ يتشكك فيما عزم عليه، وبدأ قراره فى التأرجح بين المكوث والخروج إلى العراق، وهو -فى تقديرى- قول لا ينهض أمام التحليل الموضوعى، خصوصاً إذا أخذنا فى الاعتبار أن «الحسين» سبق ولام أخاه «الحسن» على التنازل عن الخلافة، وكان ينصحه بقتال «معاوية». وفى ظنى أن أكثر كتاب التاريخ حاولوا لوى عنق مواقف كبار الصحابة من مسألة خروج «الحسين» ضد يزيد، من أجل تخطئة موقفه، للتقليل من حجم الحدث الجلل الذى وقع فى كربلاء، حين أُعمل السيف فى الحسين وآل بيت النبى صلى الله عليه وسلم. والأرجح أن هؤلاء الكبار لم يمتلكوا الروح الثورية التى كان يمتلكها الحسين بن على، وغلبت عليهم الحسابات السياسية، رغم رفضهم الشديد لدولة الملك العضوض، التى بدأت أولى ثمارها بتولية يزيد بن معاوية الحكم، ليخرج المسلمون من دائرة «الفتنة الكبرى» إلى دائرة «المحنة الكبرى».