عاشت القاهرة الجمعة ليلة من «الرعب المرورى» رأيت بعض فصولها بعينى، وكانت حالة السخط التى تطفح بها الوجوه وتنطق بوطأتها الألسنة رسالة لا تستوعب جماعة «الإخوان» فحواها الخطيرة، فالغضب جارف ودائرته تتسع ضد الجماعة بوصفها «السبب المباشر» لهذه المعاناة التى لا تقع تبعاتها المباشرة لا على الفريق عبدالفتاح السيسى ولا قادة جبهة «الإنقاذ» ولا نشطاء «تمرد»، بل على المواطن العادى الذى يرى أن الجماعة قررت أن تتخذ الشعب -أو على الأقل قطاعات منه- رهينة حتى تتحقق مطالب الجماعة، وهل فى الإرهاب ما هو أسوأ من احتجاز الرهائن؟! إن المدافع عن هدف مشروع تتآكل مصداقية موقفه كلما أوغل فى الاحتكام إلى قاعدة «الغاية تبرر الوسيلة» وكلما أوهم نفسه بأنه صاحب حق وبالتالى يجوز له أن يحاول استعادة هذا الحق بكل السبل. والقرآن الكريم والسنة النبوية لم يشددا على حرمة إثم قدر تشديدهما على حرمة سفك الدماء المعصومة، ورغم هذا فإن القرآن أباح لولى الدم أن يقتص لنفسه دون أن يسرف فى القتل، قال تعالى: «وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فِى الْقَتْلِ»، وما يحدث إسراف مقيت فى الترويع بالأقوال والأفعال سوف تدفع الجماعة ثمنه غالياً، ولسنوات طويلة. وبقدر نبل الغاية يجب أن تكون الوسيلة، ولا يعنى هذا بالطبع أننى أقر بمشروعية عودة الدكتور محمد مرسى إلى منصبه، فما حدث فى الثلاثين من يونيو وما ترتب عليه أنقذ مصر من هاوية سحيقة، أياً كان مآل السجال حول ما إذا كان انقلاباً أو لا! ومن الحقائق التى تعكس الوقائع أن الإخوان عاجزون عن استيعابها أن التخويف أصبح فى سوق السياسة المصرية مثل «نقود أهل الكهف»، ولن يغير أى طرف موقفه لا داخل جهاز الدولة ولا خارجه نتيجة التخويف، بل ستتحول المعادلة سريعاً إلى معادلة «كسر إرادة»، يقيناً سيخسرها الإخوان وحلفاؤهم لسبب بسيط غاب عنهم أيضاً وهو أن الصلابة والتصلب يبدوان متشابهين لكن الاختلاف بينهما كبير جداً، والوصف الأدق لما يحدث أنه موقف إخوانى متصلب إلى حد الغياب شبه التام عن الحقائق. وفى العمق سيسهم الموقف الإخوانى التصعيدى والوسائل التى يعتمدونها للتعبير عنه فى القضاء على ما بقى من مصداقية للإخوان فى المجتمع المصرى، ومن يتمتعون بذاكرة يقظة ولو بقدر محدود يتذكرون أن الحكومة قبل أيام من عزل الرئيس مرسى شددت العقوبات على قطع الطرق ووضعت تفرقة واضحة بينها وبين ما ببيحه حق الاحتجاج السلمى، كما أن قيادات الجماعة ورموز الجماعات المتحالفة معها طالما نددوا بقطع الطرق التى كان يقوم بها بعض المعارضين للرئيس المعزول، والمفترض أن القاعدة الصحيحة تكون موضع احترام حتى لو انتهكها الخصوم، لكن ما حدث فعلياً أن الجماعة أثبتت بالممارسة على الأرض أن مواقفها انتقائية وأنها لا تجد ازدواجية فى موقفها، بينما الشارع يرى ذلك! والشارع أيضاً يتساءل ببساطة محرجة جداً: أهذا هو الإسلام؟ وطبعاً لا مكان هنا لمنطق التسبيب المعوج الذى يعتبر أخطاء الخصوم مبرراً موضوعياً و«شرعياً» لأخطاء الإخوان، والذين حصدوا ملايين الأصوات بشعارات دينية تستثمر الشارات الدينية هم أجدر الناس باحترام المعايير الشرعية، والذى تؤكده وقائع الأيام القليلة الماضية أن جماعة «الإخوان» تنزلق -بالتداعى- إلى ممارسة الإرهاب، وما يمس حياة الناس اليومية فلا يحتاج إلى إعلام معادٍ للإخوان حتى يذوق الناس ثمرته المرة، إن الجماعة أرادت منازلة خصومها «فى الشارع» فتحولت إلى ما يشبه خدمة «الدليفرى»، إذ أصبح سلوكها على الأرض يقوم -مجاناً- بتوصيل المأساة إلى منازل المصريين! و«الرعب المرورى» الذى شهدته أجزاء من القاهرة يوم الجمعة الماضى ذكرنى بما كتبته منذ أشهر محذراً من منطق إظهار «بأس الإسلاميين»، وقد صدق ما حذرت منه آنذاك، لأن ما حدث فعلياً أن الناس رأوا «بؤس الإسلاميين». والرسول (صلى الله عليه وسلم) أوحى الله إليه بأسماء المنافقين، وكان قادراً على معاقبتهم بأقصى عقاب، لكنه امتنع حتى لا يقال «إن محمداً يقتل أصحابه»، وهو واقع لم يكن من مفردات مرحلة الاستضعاف فى مكة بل كان فى المدينة وفى قمة التمكين. والذى لا شك فيه أن «محمد بديع وشركاه» ليس لهم لا منفردين ولا مجتمعين ما يساوى ما للرسول من حقوق قِبل أى فرد أو فئة، فضلاً عن أن تكون لهم حقوق تزيد على حقوقه، والذى لا شك فيه أيضاً أننى لا أتهم خصوم تحالف الإخوان بالنفاق، فالغرور الذى يتلبس بعض المتدينين فى التعامل مع خصومهم هو نفسه من الخصال التى تطعن فى حقيقة تدينهم. والذى يحدث الآن أن أطرافاً فى الداخل والخارج تغرى الإخوان بكل الوسائل لإيهامهم بأنهم قاب قوسين أو أدنى من الانتصار، بالمخالفة لكل معطيات الواقع. وعندما تتسع المسافة بين القناعات وبين الحقائق الفعلية فإن هذه المسافة تمتلئ -غالباً- بالإرهاب، وتلك ستكون القاصمة التى تلحق بالمشروع الإسلامى من الأضرار أكثر بكثير مما تلحقه به خسارة الجماعة وحلفائها منصب الرئيس، وكما قال عمر بن الخطاب (رضى الله عنه): «ليس الكيِّس من يعرف الخير من الشر.. لكن الكيِّس من يعرف كيف يختار أهون الشرين». وليلة «الرعب المرورى» مؤشر -أرجو أن يكون خاطئاً- على أن الإخوان اختاروا الشر المستطير لنصرة «الشرعية»!