هنا يجب أن نتذكر أنه إن كان لرئيس حكومة سلطة اليمين المتأسلم من خبرة مدَّعاة فهى فى مجال الرى، مديراً لمكتب وزير الرى ثم وزيراً للرى، وهى فى مصر يجب أن تعنى أولوية حاسمة لضمان الأمن المائى لمصر، التى هى ضمن أفقر مناطق توافر المياه فى العالم. وكان ينتظر أن تكون مسألة التبعات السلبية لإقامة السدود على نهر النيل، وقد كانت مثارة منذ قبل الثورة وكان للرئيس الحاكم تصريحات ووعود عنترية بشأنها - على رأس اهتمامات الوزارة التى يرأسها. بل هناك قرائن الآن أن السيد رئيس الوزارة قد فرط فى أمن مصر القومى عندما كان وزيرا للرى، بإتاحة بيانات ما كان يجب أن تصل إلى بناة السد، كما تجاهل مشروعات بديلة لتزويد إثيوبيا بالكهرباء، الأمر الذى كان يمكن أن يثنيها عن بناء السد، ويوطد من مكانة مصر فى أفريقيا. وقد حصلت هذه الصحيفة على نص الاتفاقية التى وقعتها شركة «دلتارس» الهولندية المصمِّمة لسد النهضة الإثيوبى مع وزارة الرى و17 منظمة غير حكومية بشراكة مع الاتحاد الأوروبى، التى تكشف تسليم حكومة مصر بموجب هذه الاتفاقية ابتداءً من يناير 2011 ولمدة 3 سنوات كامل الدراسات والأبحاث التى تملكها عن نهر النيل للشركة المنفذة لسد النهضة الإثيوبى، وتؤكد الاتفاقية إتاحة المعلومات الخاصة بالمشروع ونتائجه، التى سميت «ديوفورا»، لكل المؤسسات والمنظمات التابعة للاتحاد الأوروبى، والتى لم يحصل لها السيد وزير الرى وقتها على موافقة مجلس الشعب أو رئيس الدولة بالمخالفة للدستور والقانون. الأمر الذى يؤكد تورُّط الدكتور هشام قنديل رئيس الوزراء الحالى شخصيا فى تفعيل الاتفاقية التى حصلت بموجبها الشركة المصمّمة لسد النهضة على كامل المعلومات والدراسات والأبحاث من مصر، التى سهّلت عليها تصميم سد النهضة، حيث تأكد إقامة عدد من الاجتماعات وورش عمل إبان عامى 2011 و2012، خلال الفترة التى تولى فيها هشام قنديل مسئولية وزارة الرى. ولكن شيئاً من الواجب الوطنى للرئيس ورئيس حكومته لم يحدث باستثناء رحلات الرئيس ورئيس حكومته المتكررة إلى إثيوبيا وغيرها من الدول الأفريقية، وفيها دليل دامغ على أن رحلات الرئيس ورئيس وزرائه تبقى بلا جدوى لنفع الشعب والبلد، فكل منهما زار إثيوبيا مرتين فى المدة القليلة الماضية فى الظاهر لتفادى المصيبة التى يمكن أن تحل بمصر من سد النهضة الإثيوبى، ومع ذلك بدأ تنفيذ المرحلة الأولى من السد بعد لقاء الرئيس مرسى ورئيس وزراء إثيوبيا الأخير بساعات قليلة. فى مواجهة هذا التحدى يتعين أن تضع أى سلطة حكم رشيدة وكُفئة خطة ذات بعدين؛ الأول عاجل والثانى آجل واستراتيجى. فى البعد العاجل يجب العمل، بالتعاون الوثيق مع الجانب الإثيوبى والأطراف الأخرى المعنية خاصة السودان، على استكمال المعلومات والدراسات اللازمة للتقييم السليم لمشروع السد وآثاره خاصة على دول المصب. وبناء على توافر المعلومات يجرى إخضاعها للدراسة المتأنية الدقيقة من قبل فريق متعدد التخصصات تتيح له رئاسة السلطة التنفيذية إمكانات العمل التخطيطى السليم، واقتراح بدائل التصرف المصرى تجاه ما قد يترتب على إنشاء السد وغيره من المشروعات المائية على منابع نهر النيل من انعكاسات سلبية على مصر. وفى جميع الأحوال يتعين أن تتضمن خيارات الجانب المصرى جميع أشكال التفاوض السلمى، الرسمى والشعبى، مع جميع أطراف المشكلة، فى سياق التعامل الدولى السلمى المشروع كدولة مدنية حديثة تنتمى إلى المجتمع الدولى وتحترم التزاماتها الدولية التى ما تنفك تؤكد احترامها، فمن حق سلطة الحكم فى مصر بل من الواجب عليها، بناء على المعلومات والتقييم الموضوعى لها، التفاوض المتحضر مع حكومة إثيوبيا وباقى الأطراف المعنية بالمشكلة مباشرة ومن خلال الضغط فى المحافل الدولية، لضمان حقوق مصر وصيانة أمنها والرفاه الإنسانى لشعبها. ولكن يتعين على جميع الجهات المعنية فى مصر أيضاً الدراسة الجادة لحل استراتيجى طويل الأجل، وأحد الأفكار الواعدة فى هذا المنحى هو مشروع مقترح يصل نهر الكونغو بنهر النيل بديلا للاعتماد الوحيد والخطر، والذى قد يزداد خطورة، على موارد نهر النيل وحده. ويستهدف مشروع ربط نهر الكونغو بنهر النيل التحكم فى الموارد المائية للنهر فى البلدان المستفيدة وهى مصر والسودان وجنوب السودان والكونغو، ومضمونه شق قناة تصل نهر الكونغو بأحد روافد نهر النيل فى السودان. وللعلم، ينبع نهر الكونغو من جنوب شرق الكونغو (زائير سابقاً)، ويعد ثانى أطول نهر فى أفريقيا بعد نهر النيل، وأولها من حيث مساحة الحوض، كما أنه ثانى أكبر نهر فى العالم من حيث الدفق المائى بعد نهر الأمازون، حيث يلقى هذا النهر ما يزيد على تريليون (ألف مليار) متر مكعب من المياه فى المحيط الأطلسى، حتى إن المياه العذبة تمتد لتصل إلى مسافة 30 كيلومتراً داخل المحيط. ويشمل حوض نهر الكونغو عدة دول هى جمهورية الكونغو الديمقراطية والكاميرون وجمهورية أفريقيا الوسطى والجابون وجزءاً من غينيا. وهو نهر عظيم من ناحية حجمه وتعقيده وكثرة وجود القنوات فيه، وهو موطن لأنواع عديدة من الأسماك، ويخلق نظاماً بيئياً غنياً جداً بتنوعه الحيوى. والأهم هو أنه يتميز بقوة هائلة فى دفع الماء إلى البحر حيث يقدر أنه أغزر من نهر النيل بخمس عشرة مرة. ويرجع منطق ربط النهرين إلى وفرة مياه نهر الكونجو وزيادته على حاجة البلاد التى يمر بها بداية، وهى تعتمد أصلا على مياه الأمطار الاستوائية المتوافرة طوال العام، إذ يعتبر شعب الكونغو من أغنى شعوب العالم بالموارد المائية، ونصيب الفرد من المياه فيه 35000 متر مكعب سنوياً، بالإضافة إلى ألف مليار متر مكعب سنوياً تضيع فى المحيط دون أن يستفيد منها أحد. ومن جانب آخر، يمكن أن تستفيد جميع الدول المعنية بالمشروع، فتقدم الكونغو المياه إلى الدول المستفيدة مقابل قيام مصر بتقديم الخبراء والخبرات لتطوير مجموعة من المشروعات فى الكونغو خاصة على صعيد توليد الطاقة الكهربائية من المساقط المائية الكافية لإنارة القارة الأفريقية كلها. من ثم يمكن أن يجعل المشروع دولة الكونغو من أكبر الدول المصدرة للطاقة فى العالم، ويحقق لها عائداً مادياً ضخماً من توليد وتصدير الطاقة الكهربائية، بالإضافة إلى تحقيق الاكتفاء الذاتى من الكهرباء لمصر والكونغو والسودان. هذا المشروع يمكن باختصار أن ينهى تهديد الأخطار المحتملة التى يمكن أن تنجم عن قلة المياه وشحها فى الأعوام المقبلة فى حالة مصر، حيث تستطيع تلك الموارد المائية الضخمة إتاحة المياه لزراعة مساحات شاسعة من الأراضى، مع توافر كمية هائلة من المياه يمكن تخزينها فى منخفض القطارة بدلا من الماء المالح الذى يهدد خزان الماء الجوفى فى الصحراء الغربية، كما أن نسبه التبخر من منخفض القطارة ستزيد من كمية هطول الأمطار فى الصحراء الغربية. كذلك يمكن للسودان تخزين ما تحتاجه من الماء فى خزانات عملاقة أو إنشاء بحيرة عملاقة لتخزين المياه الغزيرة التى ستتيحها القناة المقترحة للاستفادة منها فى توليد الكهرباء. على وجه التحديد يقدّر أن المشروع يمكن أن يوفر لمصر 95 مليار متر مكعب من المياه سنويا توفر زراعة 80 مليون فدان تزداد بالتدرج بعد 10 سنوات إلى 112 مليار متر مكعب، ما يصل بمصر إلى زراعة نصف مساحة الصحراء الغربية. كما يتيح المشروع لمصر والسودان والكونغو طاقة كهربائية تكفى أكثر من ثلثى قارة أفريقيا، بمقدار 18000 ميجاوات أى عشر أضعاف ما يولده السد العالى، وهو ما قيمته إذا صدر لدول أفريقيا نحو 3.2 تريليون دولار. كذلك يقدم المشروع للدول الثلاث مصر والسودان والكونغو 320 مليون فدان صالحة للزراعة. ولكن ليس المشروع خلواً من الصعوبات، إذ تواجه المشروع صعاب محتملة مختلفة بالنظر إلى الخصائص الجغرافية والطبوغرافية لحوض نهر الكونغو، حيث تتوجه المياه باتجاه الغرب بعيدا عن اتجاه النيل، وعند الرغبة فى إعادة توجيه جزء من هذه المياه لتلتف (فى مسار جديد) لتتوجه إلى الشمال الشرقى حيث تتقابل مع مياه النيل بجنوب السودان من نقطة ملائمة حيث يكون تصريف المياه بالقدر المناسب - سيحتاج الأمر إنشاء مسار جديد يصل طوله إلى نحو 1000 كيلومتر فى مناطق استوائية من الغابات وبها فروق فى المناسيب الطبوغرافية، وهو أمر يبدو فى غاية الصعوبة عملياً ولكنه ليس مستحيلاً. وبفرض أنه لم تتحْ الفرصة للاستفادة المباشرة من مياه نهر الكونغو بوصلها بروافد مياه النيل، فستظل فرصة استثمار الكوادر الفنية فى مجال الطاقة وتوليد الكهرباء فى شلالات ومساقط المياه على النهر متاحة لمصر وباقى دول الحوض، بما يفتح آفاقاً للتشغيل والتنمية الأفريقية بقيادة مصرية. وجدير بالذكر أن الكونغو وافقت مبدئياً على فكرة المشروع ولم تبدِ أى اعتراض، بل إن الكونغو هى من طلبت المساعدة من مصر بشأن هذا المشروع لأسباب متعددة، منها العلاقات المميزة بين البلدين، ورغبة من حكومة الكونغو فى التعاون مع دولة أفريقية قوية ذات خبرات عالية يكون لها مصلحة فى مياه النهر من دون أطماع مبالغ فيها بالطبع، ولكن الاستجابة كانت، للعجب، ضعيفة من الحكومة المصرية حتى الآن. هذا هو مشروع جاهز للنهضة فى مصر، يعيد إليها الريادة فى أفريقيا، بدلا من طير النهضة الخرافى الذى اختطفته الجوارح من أيدى الإخوان المخادعين. فى النهاية، لا ريب فى أن إثيوبيا، ومن وراءها، قد استغلوا ضمور الدولة فى مصر وضعف الدور المصرى فى أفريقيا للبدء فى تنفيذ مشروع سد النهضة، ومن ثم فلا يرجى أن تتحقق أهداف مصر الاستراتيجية ما ظلت هذه العيوب قائمة وبقيت مصر ضعيفة ومستباحة، بسبب فشل سلطة اليمين المتأسلم المتفاقم. مقالات متعلقة: شجون سدود النهضة الإثيوبية (1)