نجحت مصر وحدها فى مساعدة الشعب الكازاخى -بعد استقلاله من الاحتلال الروسى المقصى للدين قرابة سبعين عاماً- لاسترداد معرفته بالإسلام الصحيح الذى يكرم الإنسان بتغذية روحه بعقيدة التوحيد، ويدفعه إلى إعمار الأرض والتعايش مع الآخر والتعاون معه فى القواسم المشتركة المتعلقة بالنفس والعقل والعرض والمال، وإعذار المخالف ولو كان اختلافه متعلقاً بالعقيدة؛ لقوله تعالى: «لا إكراه فى الدين» (البقرة: 256). إن الإسلام الحق هو الذى يدعو الإنسان لاحترام عقله وتحكيم قلبه فى كل تصرفاته، على أن يتحمل تبعة ما يتعلق بحق الله فى الآخرة، وتبعة ما يتعلق بحقوق الآدميين فى الدنيا؛ فإن تفلت منها أو من بعضها فسيقضى الله بين الظالم وبين المظلوم فى الآخرة. هذا الفهم الصحيح للإسلام هو الذى يمنع وظيفة الوصاية فى الدين، ويقضى على فكرة العصبية لنصرة جماعة بعينها أو حزب بعينه، وإنما يكون الانتصار للحق ولو كان مع الأعداء أو الأجانب، ويكون العدوان على الباطل ولو كان مع الأصدقاء أو الأقارب. أخرج البخارى عن أنس أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قال: «انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً». قالوا: يا رسول الله، هذا ننصره مظلوماً فكيف ننصره ظالماً؟ قال: «تأخذ فوق يديه». وكان نجاح مصر فى كازاخستان بتوقيعهما المشترك فى 18 يونيو 2001 بإنشاء الجامعة المصرية للثقافة الإسلامية فى مدينة ألماطى، التى كانت عاصمة الجمهورية حتى سنة 1997، ولا تزال هى أكبر مدن الجمهورية سكاناً وأعلاها فى مستوى المعيشة. وبدأت الجامعة عملها فى أول سبتمبر 2001، ولم تكن وزارة التعليم والعلم الكازاخية تعترف بأن دراسة الإسلام يمكن أن تكون تخصصاً جامعياً، وعندما اعترفت به -من أجل مصر- جعلته ترخيصاً بالدراسة على أن يكون هذا التخصص غير مدرج فى قائمة التخصصات الرسمية المعتمدة. وحتى اليوم فإن هذه الجامعة التى تحمل اسم مصر هى الوحيدة بين الجامعات التى تقدم تخصصاً كاملاً فى الدراسات الإسلامية بكازاخستان. وقد قامت الجامعة بدور كبير فى تعليم الإسلام الصحيح واللغة العربية، وأقبل عليها الشباب الكازاخى حتى بلغ طلابها أكثر من ألف من الجنسين. وأصبح المتخرجون فيها موضع ثقة الشعب والحكومة. وقد عبر رئيس الجمهورية «نور سلطان» عن تلك الثقة بزيارة الجامعة عام 2011 مع عدد كبير من الوزراء والمسئولين، وقدموا الدعم للقائمين على الجامعة، وجلهم من المصريين برئاسة الأستاذ الدكتور محمود فهمى حجازى، الذى يجيد الألمانية والإنجليزية نطقاً وتأليفاً، ويشعر بالاعتزاز بسيادة اللغة العربية داخل سور الجامعة حتى كان من مأثوراته: «الجامعة تتكلم عربى»، ومعه قرابة العشرين عضواً من هيئة التدريس المبتعثين من الأزهر ووزارات الأوقاف والخارجية والتعليم العالى المصرية، وقليل من أعضاء هيئة التدريس الكازاخيين. وقد استثمرت الجامعة هذا الدعم الرئاسى لتطوير الدراسة فيها بإدخال برنامجى الماجستير والدكتوراه، وتدريب أئمة المساجد. وكانت زيارتى أولى تلك البشائر، فالتقيت الأئمة وأوصيتهم بالبعد عن التعصب، والبحث فى الفقه الإسلامى عن الأوجه التى تطمئن قلوب المسلمين فى التعايش مع الآخر. والتقيت طلاب وطالبات الماجستير والدكتوراه وأوجزت لهم طرق البحث الفقهى، كما بينت لهم الفرق بين الحكم الفقهى وبين الحكم الشرعى، وصححت لهم مفهوم المباح الذى شاع تسويته بين الفعل والترك، فهذا مدعاة لإلغاء العقل عند ممارسته، والحق أنه حكم مفوض إلى الإنسان بحسب نيته إن خيراً فخير «مندوب أو واجب»، وإن شراً فشر «مكروه أو حرام». كما أظهرت لهم تدرج أحكام الواجب والحرام، فهناك الأوجب من الواجب والأخف منه، وهناك الأغلظ من الحرام والأخف منه، بما يمكن تشبيهه بأرقام الساعة الزمنية. وهذا ما سميته بالساعة الحكمية أو الفقهية. وقد أدركت فى إقامتى بكازاخستان جمعتين خطبت الأولى فى مسجد الجامعة بعنوان «صلاة الجمعة رسالة إنسانية»، وخطبت الجمعة الثانية فى مسجد الملحقية الثقافية المصرية بعنوان «العدل أساس الحكم فى الإسلام». والحمد لله رب العالمين. مقالات متعلقة: المسلمون فى كازاخستان (3) المسلمون فى كازاخستان (2) كازاخستان والمسلمون فيها (1)