فى قصيدته الشهيرة «الأرض الخراب»، يقول الشاعرُ البريطانىّ ت. س. إليوت: «ينبتُ الليلاكُ فى الأرض الميّتة». وبالأمس شاهدتُ بعينى زهرةَ ليلاك يانعةً، نبتت فى أرض ميتة. مستشفى 57357، المشتق اسمُها من رقم حسابها الجارى بالبنك الأهلى، زهرةٌ فائقةُ الجمال، تورقُ كل يوم وتكبُر فوق أرض، كانت بالأمس القريب مكاناً موحشاً يحتلّه «المذبح» القديم بحى السيدة زينب. فتحوّل مكانٌ مخصص «لذبح» الحيوان وفنائه، إلى واحة لإحياء «الإنسان» وشفائه، بعدما شارف الموت. أما ذاك الإنسان، الذى يقوم هذا المستشفى بإنقاذه من الموت، فإنما أرقى فصيل الإنسان: الأطفال. أطفالنا، وأطفالُ مصر ممن اختبرهم اللهُ بمحنة مرض السرطان اللعين. بدأت فكرة هذا الصرح العظيم، هرم مصر الرابع، عندما ذهب طبيبٌ شابٌّ اسمه «شريف أبوالنجا»، إلى الإمام الشعراوى يشكو إليه أن 13 طفلاً مصاباً بالسرطان قد ماتوا فى يوم واحد بمعهد الأورام؛ بسبب فقر الإمكانات. فمنحه الشيخُ الجليل مائة وخمسين جنيهاً، تظلّ صدقة جارية، يلتزم بها أولاده من بعده، للمساهمة فى علاج أولئك الملائكة. فنبتت الفكرةُ فى عقل الطبيب الذكى، بأن الجهود الأهلية، قادرةٌ على فعل ما تعجز عنه مؤسسات دولة نامية مثل مصر، متعثّرة أبداً بحكّام لا يحبون أبناءها. وكان أن خصص محافظ القاهرة المحترم د. عبدالرحيم شحاتة تلك الأرض للبناء، ثم تضافرت جهود المصريين، من رجال أعمال شرفاء، وأبناء الجاليات المصرية بالخارج، ومواطنين بسطاء من مثقفى مصر الواعين، إضافة إلى الشيخ زايد، ومن بعده مؤسسته، فى تشييد هذا الصرح الهائل، الذى تُذهل حين تزوره لما تلمسه من نظافة فائقة، وبراعة فى الإدارة، ونظامٌ مدهش فى العمل حيث يعمل رقمياً بالكمبيوتر لتيسير الوصول إلى ملف أى مريض فى لحظة، والأهم، الحبّ الغامر من قِبل طاقم التمريض والأطباء لأولئك الأطفال الذين اختبرتهم السماء باختبارها الصعب. أينما ولّيتَ وجهَك ثمة جمالٌ ونظافةٌ ونظام، فتُردد مع الشاعر: «سُرَّ مَن رآك!»، وتحتاج أن تذكّر نفسك أنك تقف على أرض مصرية، لا فى أمريكا ولا أوروبا ولا اليابان. ويدور الحديث دائماً عن «الحاجة زُهرة»، بائعة الجرجير، التى تبرعت للمستشفى بخمسة جنيهات، هى ربحها فى أسبوع. أجملُ ما فى الأمر هو أن هذا الصرح الهائل، أكبر مستشفى سرطان على مستوى العالم، قد شُيِّدَ كاملاً من جيوب المصريين. لم تسهم فيه حكومةٌ ولا حاكمٌ. يعالج أطفالنا، بالمجان «الكامل». ونشكر الله أن نسبة الشفاء وصلت إلى 70%، وهو رقم فائق بالنسبة لمرض خبيث يُعدّ عدوّ الإنسان الأول. لدينا الآن 185 سريراً، ويجرى العمل على 60 سريراً جديداً، إضافة إلى بناية جديدة مجاورة سوف تضمّ 300 سرير إضافى. تحية لكل القائمين على هذا الهرم الهائل. ولأبناء بلدى أقول: تبرّعوا لهذا المستشفى، فإنه الاستثمارُ الأرقى على الإطلاق، فى الدنيا، وفى الآخرة.